الدكاترة الجدد ضيقو الأفق

من هذا المتطاول على أصحاب الدال؟ وما يضرهم أنهم حصلوا على درجة الدكتوراة حديثا؟ وهل يزداد حجم الدال التي تسبق أسمائهم مع الزمن حتى يعابوا بأنهم جدد؟!

أما هذا المتطاول فيدعى الدكتور كرايج بارتريدج Craig Partridge وهو أحد الباحثين في شركة بي بي إن في مجال شبكات الحاسب والاتصالات، بل هو العالم الرئيسي في هذا المجال مَثله مَثل جان مخول في مجال تحليل الأصوات، إذ كلامها يحملان لقب Chief Scientist.

أنهى بارتريدج دراسته الجامعية من جامعة هارفارد في تخصص تاريخ القرون الوسطى (تخيلوا!)، وبعد ذلك حصل على درجتي الماجستير والدكتوارة من نفس الجامعة ولكن في تخصص علوم الحاسب. وقد كان بارتريدج ممن ساهم في بناء شبكة آربانت والتي كما أشرت سابقا هي نواة شبكة الإنترنت الحالية. من أبرز أعماله تصميم كيفية توجيه الرسائل الإلكترونية (رسائل الإيميل) إضافة إلى إسهاماته لتصميم وبناء أسرع موجه (راوتر Router) في أواسط التسعينات الميلادية [1].

فبعد هذا التقديم لهذا العَلم والباحث في الشركة، فهل يصح لي أن أعتبر ما قاله تطاولا على معاشر الدكاترة الجدد؟ خاصة وأنه قالها أمام مجموعة نصفها حاصلون على شهادة الدكتوراة.

لنكمل قصتنا حتى نعرف فيمن قيلت هذه المقولة وما المناسبة؟ وبعدها لنرى إن كانت صحيحة أم لا؟

أقامت الوحدة الإدارية التي أعمل بها خلال الأسبوع الثاني من عملي بالشركة محاضرة بعنوان: “كيف تحصل على دعم مادي من داربا؟” [2]. وكان كرايج بارتريدج المتحدث بحكم خبرته في هذا المجال. ومن ضمن ما ذكر في محاضرته أن داربا تعين مسؤولين عن توزيع أموال الدعم المادي ومتابعة المشاريع البحثية مع الجهات البحثية كالجامعات والشركات. ومن ضمن مسؤولياتهم تحديد المجالات البحثية التي تحتاج داربا للاستثمار فيها، وبعدها يعلن عن هذه المجالات ويتم طلب تقديم مقترحات بحثية من الجهات البحثية من خلال ما يعرف بـ (Request for Proposal – RPF)، بحيث يذكر الباحثون في هذا المقترحات  مدى اطلاعهم في الموضوع الذين يريدون البحث فيه، ويشيرون إلى بعض من أبحاثهم السابقة في هذا المجال إضافة لما ينوون القيام به لتقديم حلول للموضوع. كل يسعى للظفر بهذه “المناقصة” إن صح التعبير. وحيث أن ميزانية شركة بي بي إن تقوم بشكل أساسي منذ أيامها الأولى على الدعم المادي الذي يأتي من الحكومة الأمريكية وخاصة داربا، فعادة ما تكون فترة إنهاء تسليم المقترحات للحصول على دعم داربا أكثر توترا من فترة تسليم الأوراق العلمية للمؤتمرات.

بعدها تحدث بارتريدج عن أهمية بناء العلاقات مع هؤلاء الأشخاص المسؤولين عن الدعم المادي في داربا، حيث أن العلاقات الحسنة لها دور أساسي في كسب ثقتهم. وشرح ذلك بأن العلاقة والثقة الحسنة مع أحد هؤلاء المسؤولين ستيسر على الباحث في الشركة إقناعه بأهمية مجال بحثه لداربا، فبالتالي ستكون فرصته أكبر بالحصول على الدعم عند طلب المقترحات البحثية لأنه كان له دور في تشكيل موضوعها.

ثم تحدث كرايج عن طبيعة هؤلاء المسؤولين وأنهما نوعان إما موظفون قدماء في داربا عملوا في مجالات أخرى ثم تعينوا كمسؤولين عن توزيع الدعم المادلي ومتابعة المشاريع البحثية، أو أنهم دكاترة جدد تخرجو حديثا، وبعدها ذكر مقولته التي عنونت بها هذه اليومية “الدكاترة الجدد ضيقو الأفق”.

فها قد عرفتم عن المقولة الآن قائلها، وفي من قيلت، والمناسبة. فالسؤال الآن لماذا قال ذلك؟
وماذا عساه يقول عن طالب للدكتوراة مثلي في ذلك الوقت لم يسبق حرف الدال اسمه بعد؟

شرح بارتريدج مقولته وقال إن طالب الدكتوراة أول ما يتخرج يكون لديه معرفة كبيرة، ولكنها محدودة في مجال بسيط، وأشار بإبهامه وسبابته لصغر هذا المجال، وأضاف أن المتخرج حديثا من مرحلة الدكتوراة يحتاج لعدد من السنوات ليوسع مداركه البحثية وينضج أكثر كباحث. ويسند ما قاله باتريدج ما قيل في الأثر: العلم ثلاثة أشبار، من دخل في الشبر الأول تكبر، ومن دخل في الشبر الثاني تواضع، ومن دخل في الشبر الثالث علم أنه لا يعلم شيئا. هذه المقولة تنبه طلبة العلم سواء الشرعي أو التطبيقي -وطلبة الدكتوراة منهم- بألا يغتروا بسعة اطلاعهم وعلمهم، وذلك أن العلوم واسعة وهي كالبحر الذي لا ساحل له. فلعل مثل هذه المقولات تذكر الدكاترة الجدد، وحتى القدماء ممن هم مازالوا باقين على ما هم عليه منذ أن حصلوا على شهادة الدكتوراة، ناهيك عمن ما زال طالب لها، بإدراك أن رسالة البحث التي بموجبها سبقت الدال أسماءهم ما هي إلا قطرة من هذا البحر، وأن هذا القطرة مهما كانت كبيرة ستجف بمرور سنوات بسيطة، فطلب العلم عملية لا تنتهي، وأهم ما يتعلمه طالب الدكتوراة في دراسته هو آليات البحث نفسها، وكيفية التعلم الذاتي، وفوق هذا كله الكتابة العلمية الصارمة والتي يتحدث فيها الباحث بكل دقة وموضوعية، ويعبر عن بحثه بقدر ما يعلم، ناهيك عن أن ينسب لنفسه شيئا لم يقم به.

[1] يمكن قراءة المزيد عن كرايج بارتريدج من خلال هذا المقابلة: A Day in the Life of … Craig Partridge
[2] سبق الحديث عن داربا، وللتذكير فهي وكالة تتبع وزارة الدفاع الأمريكية وتقوم بدعم كثير من المشارع البحثية في الجامعات وغيرها بميزانية سنوية يبلغ متوسطها 3,2 مليار دولار.

اليومية القادمة: عندما يضيق بك بلدك ويتسع لك غيره من البلدان!

ردّ واحد على “الدكاترة الجدد ضيقو الأفق”

  1. ويسند ما قاله باتريدج ما قيل في الأثر: العلم ثلاثة أشبار، من دخل في الشبر الأول تكبر، ومن دخل في الشبر الثاني تواضع، ومن دخل في الشبر الثالث علم أنه لا يعلم شيئا.

    يالله يابو ماجد، ” وما اوتيتم من العلم الا قليلا “

اترك رداً على ابو جود إلغاء الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *