اجتماع كل الأيادي … أخذ زمام المبادرة عند رئيس الشركة

 

تعقد شركة بي بي إن اجتماعا عاما كل ثلاثة أشهر يحضره جميع موظفي الشركة. ويسمون هذا الاجتماع اجتماع كل الأيادي (All Hands Meeting). خلال هذا الاجتماع يقوم رئيس الشركة بعرض أداء الشركة خلال ربع السنة الماضي، والحديث عن توجهات الشركة، وتكريم الموظفين المتميزين، إضافة إلى الإجابة عن أسئلة الحضور. وبعدها يختم الاجتماع بتناول طعام العشاء، والذي تذكر إحدى الموظفات أنه يمكن لها معرفة مستوى الشركة المالي من خلال مستوى الطعام المقدم، إذ ترى أن هناك ترابطا بين الأمرين.

وقد حضرت أثناء الفترة التي عملت فيها بالشركة أحد هذه الاجتماعات … لن أخوض في تفاصيل ما تحدث به رئيس الشركة ونوابه عن أداء الشركة وتوجهاتها، ولكنني سأتوقف عند حدث واحد تحدث عنه رئيس الشركة وهو التسريح الذي قامت به الشركة مؤخرا لبضعة عشر شخص من وظائفهم [1]. فقد أرسل قبل أسابيع من عقد الاجتماع إيميل بهذا الخصوص وعن عدد الموظفين الذين تم تسريحهم، وقد تمت مراعاة مشاعر هؤلاء الموظفين بعدم ذكر أسمائهم.

وخلال الفترة المحددة للأسئلة سألت إحدى الموظفات رئيس الشركة سؤالا، والتي بدا من سؤالها أنها تعرف أحد من تم تسريحهم. قالت في سؤالها لرئيس الشركة: قد ذكرت أثناء حديثك عن أداء الشركة أنكم ستستمرون في تعيين موظفين جدد (مما يعني أن مستوى الشركة المالي جيد)، فإذاً لماذا قمتم بتسريح هذا العدد من الموظفين؟

مغزى السؤال هو أن تسريح الموظفين عادة يكون سببه عدم وجود ميزانية كافية للاستمرار في تغطية دخل الموظف، ولكن من الواضح أن هذا ليس هو السبب لقراركم، فلماذا إذاً قمتم بقطع رزق هؤلاء الموظفين؟

عندها أحسست أنه سؤال محرج … وأن على رئيس الشركة إجابته أمام جميع موظفيه … وجلست أترقب هل سيستطيع الرئيس الإجابة على هذا السؤال بشكل واضح ودون أن يؤذي مشاعر أحد؟ أو بعبارة أخرى كيف سيستطيع الإجابة عليه وبأقل الخسائر الممكنة؟

بدأ رئيس الشركة إجابته بشكل هادئ …  وقال أن مثل هذه القرارات يتخذونها فقط عند اضطرارهم لذلك وليس رغبة منهم في ذلك، وأنها من الأمور التي عليهم التعامل معها كمدراء رغم على أثرها على الموظف، ولكنهم يلجؤون لذلك لتغليب مصلحة الشركة على مصلحة الفرد. ثم كرر ما ذكره في بداية حديثه من خلال الإشارة إلى أسفه لما حدث [2]، وأكد أنهم لم يتخذوا هذا القرار لكل موظف إلا بعدما استنفذوا باقي الخيارات الأخرى من نقل الموظف لوظيفة أخرى أو محاولة تطوير مهاراته لتحاكي المتطلبات الحالية للعمل بالشركة. وعبر بعدها عن تمنياته لهم وثقتهم بهم أنهم سيجدون وظائف أخرى لائقة بهم، وذلك لأن معايير الشركة في التوظيف عالية مقارنة بغيرها من الشركات، مما يعني أنهم مؤهلين لتقلد مناصب جيدة في شركات أخرى.

بعدها استمر الرئيس في إجابته ولكن الإجابة اتخذت منحى آخر تجاه نصح الموظفين الحاليين بأهمية عدم الركود والسعي الدائم لتطوير المهارات والقدرات لتتناسب مع متطلبات العمل الحالية، وأضاف أن ما كان يعد معرفته وإتقانه في السابق كافيا للتميز قد لا يكون الآن كذلك. ثم قرر الرئيس أن يكون أكثر صراحة في رأيه ويكاشف الحضور بذكر عبارة، ونبه إلى أنها قد توقعه في بعض المشاكل ولكنه سيقولها!

قال الرئيس: إن المرء الذي لا يأخذ زمام المبادرة، ويظل ينتظر أن تحدث الأمور له، فإنه يستحق أي شيء يحدث له!

أحسست بقوة العبارة وصراحتها … ولكن في نفس الوقت بصحتها … ومدى أثر ذلك في تطوير عمل الشركة والنهوض بها …

وصحيح أن الموظف في القطاع الحكومي السعودي لديه أمان وظيفي ولا يفصل من عمله، ولكن انتظاره سواء هو أو حتى الموظف في القطاع الخاص أن تحدث الأمور له لن ينتج عنه في الغالب ما يسره، فسيبقى في وظيفته دون فرصة الارتقاء.

فما رأيكم؟ هل توافقوني الرأي حول العبارة التي ذكرها مدير الشركة؟ هل ترون أن الذي لا يأخذ زمام المبادرة يستحق ما يحدث له؟ أم أن على الإدارة التي ينتمي لها الموظف الاعتناء به وترقيته بحيث يركز الموظف على شغله؟ وهل على المتخرج حديثا أن يقدم ملفه على الشركات والجهات الحكومية وينتظر ما يحدث له أم يسعى أكثر ليجد لنفسه وظيفة؟

[1] أشير إلى أن هناك فرق بين مفهوم الطرد firing والتسريح layoff، فالأول مرتبط بضعف أداء الموظف أو سوء أخلاقه، بينما الثاني مرتبط بعدم استمرار حاجة الشركة لخدمات الموظف أو عدم قدرتها على تغطية تكلفة توظيفه. وأحيانا يطرد الموظف ولكن يقال أنه سرّح تلطيفا للأمر أو تجنبا للتصعيد من قبل الموظف المفصول وذلك لأن حقوق نهاية الخدمة للموظف المسرح أكثر من حقوق الموظف المطرود.

[2] أوضح أن رئيس الشركة أبدى أسفه وليس تأسفه، والفرق بين هاتين الكلمتين مهم، فالأولى تشير إلى تعاطفه مع حالة الموظفين، بعكس الثانية والتي لم يقلها لأنها تقتضي اعتذاره عن قرار لا يرى أنه ارتكب خطأ فيه.

اليومية القادمة: اجتماع كل الأيادي … أخذ زمام المبادرة عند الرئيس الأول للشركة

ملا نصر الدين

تمثال لنصرالدين في أحد منتزهات أنقرة  – المصدر: Wikipedia

من هو ملا نصر الدين؟ أبشركم ليس باحثا أو موظفا في شركة بي بي إن

بل هو شخصية كلنا يعرفها ولكن باسم آخر

عرفني على هذه الشخصية بهذا الاسم زنكي نفسه [1]، إذ لفت انتباهه انتهاء كل ألقاب القادة الذين ذكرتهم لهم -عندما التقيت به في أيامي الأولى في الشركة- بكلمة الدين (عماد الدين، نور الدين، صلاح الدين)، فشرحت له معنى الكلمة. ثم سألني إن كنت أعرف شخصية اسمها ملا نصر الدين؟

فقلت أني لا أعرفها … فعندها لجأ إلى موقع ويكيبيديا ورأينا معلوماته، وبعد القراءة اليسيرة اكتشفت أن شخصية ملا نصر الدين ما هي إلا شخصية جحا المشهورة وأن ملا نصر الدين هو النسخة الفارسية من شخصية جحا العربية، بل اكتشفت أن هناك نسخ تركية وألبانية وأوزبكية وبوسنوية وأذريبيجانية وغيرها، واسم نصر الدين هو القاسم المشترك بينها، ولكن في كل نسخة يكون هناك إضافة مختلفة مثل خوجة أو أفندي.

وتحدث زنكي عن كاتب إيراني معاصر كان يكتب عن قصص ونوادر جحا الفارسي ولكن باللغة الإنجليزية، مما جعل ملا نصر الدين (جحا) معروفا لدى شريحة من المتحدثين باللغة الإنجليزية. الطريف في الأمر أن الكاتب الفارسي لم يكتفِ بذكر نوادر جحا القديمة بل أضاف عليها نوادر حديثة تتعلق باستخدام الطائرات وعبور نقاط التفتيش عند الحدود. ولكن هناك فارق طفيف بين جحا العربي والفارسي ولكن في نفس الوقت جوهري وهو استبدال حمار جحا ببغل ملا نصر الدين.

عندها اشتهيت أن أستعرض معرفتي بهذه الشخصية الفكاهية أمام زنكي، وذكرت له قصتين شاهدتهما في أناشيد قناة المجد للأطفال التي كان يستمع إليها ابني وقتها. فكانت القصة الأولى هي مسمار جحا … وتذكر القصة أن جار جحا كان يرغب بشراء بيته، ولم يكن جحا يرغب بذلك، ولكن الجار ألح وألح عليه في الطلب حتى رضخ جحا تحت شرط واحد وهو أن يبقي مسمارا في حائط الدار لا يبيعه، فوافق الجار. عندها صار جحا يأتي للجار كل يوم ويطالبه بالمفتاح لأن من حقه تفقد المسمار. واستمر حجا بهذه الزيارة إلى أن ضجر الجار وقال لجحا هاك الدار مع المسمار، ولم يأخذ ما أعطاه من أموال. أعجبت القصة زنكي وذكر أنه لم يقرأها من قبل.

فذكرت له القصة الثانية وهي قصة حمار جحاوتذكر القصة أن السلطان في المدينة كان له حمار اسمه بلهان، ويريد أن يعلمه ويؤدبه، فأعلن في المدينة عن حاجتهم لمعلم، فتقدم جحا وقال بإمكاني تعليمه ولكن ذلك سيتطلب 50 عام، فوافق السلطان على ذلك ولكنه قال لجحا إن لم ينجح بعد 50 عام فسيقتله، فوافق جحا على هذا الشرط. بعدها سأله الناس جحا كيف وافقت على هذا الشرط، وأنت تعلم أنه لو لم تنجح قتلك السطان. فقال جحا: بعد 50 عام سيهلك السلطان، أنا، أو البلهان! فضحك زنكي بهذه القصة والتي أيضا لم يقرأها من قبل.

فالآن إذا سئتم من قصص جحا العربي فابحثوا عن قصص نصر الدين الفارسي

[1] سبق الحديث عن جون زنكي (الموظف في الشركة) في يومية عماد الدين زنكي

اليومية القادمة: اجتماع كل الأيادي … أخذ زمام المبادرة عند رئيس الشركة

قصر الإمارات وماتلاب

في أول اجتماع عمل أحضره  في الشركة حضر أحد الموظفين والذي عاد مؤخرا من زيارة عمل له لأبو ظبي، والتي كان من الواضح جدا من حديثه أنها أول زيارة له. بدأ الحديث عن فندق قصر الإمارات الذي سكن فيه ومدى عظمته وضخامته وفخامته، وقال أنه لا يعرف كم كانت قيمة الليلة لأنه سكن على حساب من استضافه. لم يتكلم عن طبيعة زيارته ولكنه تحدث عن التقائه بأحد الشيوخ الشباب، وذكر أنه لم يرَ شخصا (كول) مثله [1]. بدى واضحا أن الإخوة الإمارتيين نالوا إعجاب صاحبنا بامتياز.

بعد انتهاء الاجتماع أرانا الموظف صور الفندق عن طريق كتابة اسم الفندق في موقع الشيخ جوجل. طبعا بحكم أن الإمارات بلد شقيق ومجاور للسعودية وسبق وأن زرتها أكثر من مرة وتحديدا دبي، فقد كنت أعرف كثيرا من معالمها المهمة، فذكرت له أن الفندق المشهور في الإمارات هو برج العرب، ففزع لي مديري الأسترالي وذكر نعم وأن حماه يسكن ويعمل في دبي، وبدأ يشرح كيف أن تصميمه الخارجي على شكل شراع، ثم أضفت أنه أطول بناء قواعده في الماء في العالم. ثم انتقلت للحديث عن برج آخر وهو برج خليفة في دبي، وكيف أنه صار وهو ما زال قيد الإنشاء وقتها أطول بناء في العالم على الإطلاق، أطول من أي عمارة أو برج أو حتى برج اتصالات حديدي. وكان التعجب ظاهرا على وجوه الجميع.

بعدها بأيام التقيت بزميل دراسة وصديق تخرج من قسم الهندسة الكهربائية وهندسة الحاسابات بجامعة كارنيجي ميلون. صديقي من السودان ولكنه ولد ونشأ في أبو ظبي حيث كان وما زال والداه وقتها يعملان في مهنة الطب هناك. زميلي يعمل في المقر الرئيسي لشركة MathWorks في بوسطن. هذه الشركة مشهورة بمنتجها الأساسي وهو برنامج ماتلاب MATLAB، وهو اختصار لـ Matrix Laboratory، أي معمل المصفوفة، وذلك لكفاءته العالية في استخدام المصفوفات لأداء العمليات الحسابية. هذا البرنامج هو أحد أكثر البرامج استخداما في مجال الهندسة لمقدرته الهائلة على أداء العمليات الرياضية كالتفاضل والتكامل وغيرها من العمليات المعقدة التي لا تحصى. وهو البرنامج الأساسي الذي استخدمته في بحث رسالتي للدكتوارة.

طبيعة عمل صاحبي في الشركة هي الإجابة عن استفسارات الزبائن من موظفي الشركات والقطاعات التجارية ونحوهم حول عمل البرنامج. وبحكم طبيعة عمله هذه صار لديه معرفة واسعة في قدرات البرنامج التي لا تحصى والتي يصعب على الباحثين مهما بلغت خبرتهم في البرنامج معرفتها كلها. وقد حرصت وقتها على عدم تفويت الاستفادة من معرفته الواسعة أكثر من مرة لسؤاله عن بعض الأوامر للقيام ببعض المهام، فكان يعطيني اسم لأمر معين للقيام بما أريد، مما يوفر علي وقت ومجهود كتابة برنامج كامل للقيام بما أريد. ومن قام بكتابة برامج طويلة في الماتلاب سيدرك فائدة مثل هذه المعرفة.

سألت صاحبي عن فندق قصر الإمارات بحكم أنه من أبو ظبي، فذكر أنه فندق جديد بنته إمارة أبو ظبي لمنافسة فندق برج العرب في دبي وأن تكلفة الليلة فيه أغلى من تكلفة الليلة في برج العرب.

وقفت عندها أتسائل إلى متى ستستمر هذه الحمّى التي تجري في بلداننا في بناء هذه المباني؟ ولا أخص في حديثي هنا الإمارات إنما هي مجرد مثال. فعظمة مبانينا لوحدها لا تعني عظمتنا بل لا بد أن يصحبها مزيد من الإنتاج والعمل. وتطوير البرامج سواء المتعلقة بالنواحي البحثية والتعليمية مثل ماتلاب أو تلك المتعلقة بتطبيقات الإنترنت على سبيل المثال مجال خصب في طريقه للنمو بشكل أكبر في بلداننا بمشيئة الله.

[1] كلمة كول Cool هي كلمة إنجليزية تستخدم في الأصل لوصف القدر اليسير من البرد في الطقس، ولكن هذا المعنى قليل الاستخدام وأصبحت الكلمة تستخدم لوصف الشخص المثير للإعجاب أو “الثقيل”، وأحيانا لوصف الشخص الغير مبالي والذي لا يدقق في بعض الأمور، كما تستخدم لوصف الأمور “الحركة” حسب اللهجة المحلية الحديثة.

اليومية القادمة: ملا نصر الدين

المحاضرة الأخيرة

نشرت هذه اليومية كمقال بعنوان مع راندي باوش في محاضرته الأخيرة في صحيفة الرياض – العدد 14685 – تاريخ 1429/9/7 هـ الموافق 2008/9/7 م

دخلت قبل أيام على مديري في مكتبه أثناء فترة عملي الصيفي في شركة بي بي إن الأمريكية، فوجدت على مكتبه كتابا بعنوان المحاضرة الأخيرة The Last Lecture لمؤلفه راندي باوش Randy Pausch أستاذ علوم الحاسب بجامعة كارنيجي ميلون، ففطن لانتباهي للكتاب وذكر لي أن حماته نصحته بقراءة الكتاب، وسألني إن كنتُ أعرف المؤلف، فابتسمتُ وقلت له أنسيتَ أني أدرس في نفس الجامعة التي كان يعمل بها؟ ثم أضفت أني حضرتُ المحاضرة الأخيرة، فبدت علامات الدهشة على وجهه وقال إنه سيخبر حماته وأنها ستكون أيضا في غاية الانبهار!

فما سبب دهشة مديري وحماته؟ وما قصة الدكتور راندي باوش الذي عدَّتْه مجلة تايم مؤخرا من ضمن أكثر مائة شخصية مؤثرة في العالم؟ وما قصة محاضرته وكتابه والذي ترجم لأكثر من ثلاثين لغة وحقق أعلى المبيعات؟

القصة بدأت يوم الثلاثاء 1892007 م عندما بدأت الجامعة سلسلة محاضرات بعنوان “رحلات”، يذكر فيها أساتذة الجامعة تجربتهم الشخصية ورحلتهم في النجاح، لكن محاضرة ذلك اليوم بعنوان “حقِّق أحلام طفولتك” كانت من نوع آخر، فأكثر من شخص امتدح المتحدث وحث على الحضور. حتى أن المشرف على بحثي أرسل لطلبته رسالة قبل أكثر من أسبوع يحثهم على الحضور المبكر، وأضاف عبارة لم نفهما وقتها إذ أشار أن محاضرته ستكون بمثابة “المحاضرة الأخيرة”.

وفي صباح يوم المحاضرة فهمتُ ماذا قصد؟، إذ علمتُ أن المتحدث تم تشخيصه بسرطان البنكرياس للمرة الثانية الشهر الماضي، بعدما تعافى من إصابته السابقة قبل فترة بسيطة، ولكن هذه المرة ذكر له الأطباء أنه لا علاج له وأنه لم يتبقَ في حياته إلا ثلاثة إلى ستة أشهر، فكانت هذه المحاضرة بمثابة المحاضرة الأخيرة له في حياته.

عندها زرتُ موقع باوش للتعرف على الشخص، فاتضح لي أنه أنهى الدكتوراة من جامعة كارنيجي ميلون نفسها عام 1988 ثم عمل في جامعة أخرى قبل أن يعود كأستاذ مشارك للجامعة في عام 1997، وقد قام مع أستاذ آخر في قسم الفنون والدراما بتأسيس مركز للتقنية الترفيهية يجمع بين تدريس علوم الحاسب والفنون ويعطي درجة الماجستير في ذلك، وقد تميز المركز بجودة خريجيه وافتتاح فروع له خارج أمريكا، حتى أن بعض الشركات كانت تقول للمركز أنهم سيوظفون خريجيه حتى قبل أن يتم قبولهم في البرنامج، كان من إنجازته أيضا مشروع “آليس” لتعليم الصغار لغات البرمجة، حيث يقوم برنامج المشروع بتعليم الأطفال برمجة الحاسب عن طريق أفلام وألعاب الكرتون، كما أنه عمل في شركة ديزني المعروفة وذلك لتصميم أحد الألعاب المتعلقة بالحاسب الآلي، هذا عدا غيرها من الإنجازات في مجال البحث والتدريس.

لم يكن الأستاذ الجامعي متقدما في العمر فقد كان عمره 47 عاما، وهو متزوج وأب لثلاثة أطفال كلهم كانوا دون الخامسة من العمر، في إعلان محاضرته والذي علق في ممرات الجامعة وضعت صورة له وهو يحمل أطفاله الثلاثة، أحدهم بيده اليمنى والآخر باليسرى والثالث فوق أكتافه، وذكر في وصف المحاضرة أن غالب الناس تكون لهم أحلام أثناء طفولتهم، ولكن للأسف غالب الناس لا يحققون أحلامهم، ثم أضاف أنه كان لديه عدد من الأحلام وأنه حققها، وأوضح أنه في محاضرته سيتحدث كيف يمكن للمرء أن يدير حياته حتى يحقق أحلامه.

طبعا لم أفوِّت مثل هذه الفرصة لحضور مثل هذه المحاضرة بل وطلبت من زوجتي أم ماجد أن تحضر معي وفعلا حضرت، وصلنا لمبنى القاعة وكان عدد الحضور مهولا والناس مصطفين في صف طويل جدا قبل بدء المحاضرة بأكثر من نصف ساعة لدخول القاعة، حتى أننا خشينا أن تمتلئ القاعة قبل دخولنا لها، ولكننا استطعنا الدخول وجلسنا في مقعدين في آخر المدرج.

تحدث باوش عن أحلام طفولته وبين كيف استطاع تحقيقها، وتذكَّرت عددا من الأقوال الجميلة أقتطف لكم بعضا منها:

– لا تتضايق من توجيه الناس لك، لأنك عندما لا تتقن العمل ولا يوجد من يوجِّهك فهذا يعني أنهم فقدوا الأمل فيك.

– العقبات التي تواجهها في طريقك ليست لإيقافك … ولكن لتثبت جديتك في رغبتك بالوصول، فهذه العقبات وضعت لمنع من لا يملك الجدية الكافية للوصول … ولا يمنع أن تكون بعض العقبات مصنوعة من لحم ودم.

– إذا كنت غاضبا من شخص ما … فالسبب أنك لم تعطه الوقت الكافي لتعرف من هو … فقط أعطه بعض الوقت … وسوف يبهرك في كثير من الأحيان.

– عمل المرء في مجال التدريس يتيح لك فرصة المساهمة في تحقيق أحلام طفولة الآخرين.

تحدث عن إحدى المواد التي أسَّسها في الجامعة وعن مشاريع الطلبة فيها، وكيف أنه رغم أنه لم يكن هناك إلا 50 طالب في المادة، إلا أنه في اليوم الأخير لعرض المشاريع حضر 95 شخص، كثير منهم كانوا آباء الطلبة!

تحدث عن أبيه وأمه، وعن فضلهما وأثرهما عليه، وكيف أنهما سمحا له وهو صغير بأن يدهن جدارن غرفته … ثم ألقى نصيحة للآباء والأمهات إذ قال: إذا أراد أبناؤكم أن يدهنوا جدرانهم … فلا تمنعوهم … من أجلي لا تمنعوهم … ولا تقلقوا بشأن انخفاض قيمة المنزل.

تحدث عن مشرفه الدراسي في مرحلة البكالريوس وقد كان موجودا بين الحضور، وكيف أنه نصحه ذات مرة وقال له: من المؤسف يا راندي أن الناس يعتبرونك مغرورا … لأن ذلك سيحدُّ مما يمكنك إنجازه في المستقبل … ثم علَّق كيف أن مشرفه استطاع بطريقة غير مباشرة ورائعة أن يخبره أنه مغرور وكيف أنه هو المتضرر من ذلك.

مما قال أيضا: اصدق مع الناس … تأسف إذا أخطأت … أقر بالفضل لأهله … لا تتذمر ولكن اعمل بجد واجتهاد.

مما أدهشني في المحاضرة نفسيته المذهلة، وكيف أنه بدأ المحاضرة بالإشارة إلى أنه حاليا في وضع صحي ممتاز من خلال عمل تمارين الضغط باليدين، ثم إشارته إلى أنه لا يملك اختيار القَدَر ولكنه يملك كيفية التعامل معه، وعبر عن ذلك بقوله لا نستطيع تغيير الأوراق التي تعطى لنا، نستطيع فقط تحديد طريقة اللعب بها، هذا عدا إخلاصه وجهده في إعداد وإلقاء المحاضرة، والدروس التي تعلمها في حياته، وإظهاره لتقديره لزوجته، وخاتمته المؤثرة بخصوص أطفاله الثلاثة، وفوق هذا مرحه أثناء هذه الفترة الحرجة.

مما استوقفني كذلك بعض ما عكسته لي المحاضرة حول شرائح من المجتمع الأمريكي أظن أن كثيرا من الطلبة لم يكن يعتقد بوجودها عندما جاء لهذه البلاد، فمثلا الصورة التي لدى كثير من الطلبة عند مجيئه لأمريكا وحتى بعد بقائه فيه لسنوات أن الشعب الأمريكي مادي ولا يوجد لديه مشاعر الحنان أو العطف أو الاهتمام بالأسرة، وهذه السلوكيات المادية نعم موجودة، لكن لدى شريحة من الشعب وليس كامله، فهناك من الأمريكيين من تكون الأسرة هي همُّه الأول، ومشاعر الصداقة لديه عالية، والبعد عن المادية والإخلاص في العمل من أجل نفع الآخرين ديدنه، غالب هذه الملاحظات تجلَّت وتأكَّدت لي من خلال الكلمات التي ألقاها معارف باوش قبل وبعد المحاضرة، ومن خلال المحاضرة نفسها.

بعد إلقاء المحاضرة طارت الركبان بها، فقد استضيف باوش من قبل مقدمي برامج مشهورين عالميا مثل أوبرا وديان سوير، حتى أن مدير الجامعة في محاضرة لاحقة له في الفصل الثاني ذكر أنه خلال زيارته للهند سأله من قابلهم عن هذه المحاضرة وعن صحة باوش، وحسب التقديرات فإن عدد من شاهد المحاضرة في أنحاء العالم عبر الإنترنت هو عشرة ملايين!

الدكتور راندي باوش عاش لأكثر من 6 أشهر بعد تشخيصه بالسرطان، وخلال كل هذه الفترة رضى بقدره وتعامل معه بواقعية وبروح معنوية عالية وحرص على الاستمرار في البذل والعطاء بشكل عام ولأفراد أسرته بشكل خاص، ووفاء وتقديرا له استضافته جامعته في حفل الخريجيين قبل شهرين مع نائب الرئيس الأمريكي السابق آل جور لإلقاء كلمة للخريجين، كانت كلمة قصيرة ولكنها مليئة بالوقفات، كان مما قال:

– أن المرء ليس بعدد السنين التي يحياها إنما بما يعمل …

– الشخص عند وفاته لن يندم على ما قام به ولكن على ما لم يقم به …

– على كل واحد فينا أن يبحث عن أمر يهواه مهما طالت مدة البحث بدلا من انتظار الأجل …

– وأوضح إنك لن تجد ما تهواه بامتلاك الأمور المادية أو المال إذ سيكون هناك دائما من يمتلك أكثر منك …

– وأضاف أن ما يمد هواك بالوقود يجب أن يأتي من داخلك …

– وأكد على أهمية ارتباط هواك بالناس وبعلاقاتك معهم …

– وختم كيف أن زوجته كانت هواه في حياته …

هذه هي قصة المحاضرة الأخيرة …

عودة لمكتب مديري في العمل …

دخل علينا موظف آخر يعمل معنا ولاحظ حديثنا عن كتاب باوش، فعرفه وذكر أنهما كانا يلعبان كرة السلة معا عندما كان طالبا وذكره بخير، ثم أضاف أن أعز أصدقائه أصيب أيضا بسرطان البنكرياس وتوفي قبل سنوات بسيطة، الملفت في الأمر أن هذا الموظف يلبس في يده سوار مطاطي أصفر اعتاد على لبسه عدد من الأمريكيين للتوعية بأمراض السرطان ولإبداء تعاطفهم مع المصابين، ورغم أن هذه العادة خفتت بشكل كبير في أمريكا، إلا أن صاحبنا ما زال يلبس هذا السوار المطاطي في يده اليمنى وفاء لصديقه الذي مات.

بعد هذه الحادثة في مكتب مديري بأيام وصلني عبر البريد الإلكتروني رسالة أرسلها مدير جامعة كارنيجي ميلون لمنسوبيها صباح يوم الجمعة 2008/7/25 م ينعي فيها الدكتور راندي باوش ويذكر إنجازاته وأثره على الجامعة قبل وبعد مرضه، وكيف أنه علمنا كيف نعيش ونواجه أكبر التحديات. تساءلتُ عندها كم من أساتذتنا الجامعيين سيصل لما وصل لها راندي باوش من تأثير؟ وتسائلت أيضا كم من معارف باوش سيلبس سوار مطاطيا وفاء له؟

روابط متعلقة بالدكتور راندي باوش

اليومية القادمة: قصر الإمارات وماتلاب

أستراليا، ماليزيا، الصين، لبنان، إرمينيا، أمريكا

 

ما الذي يجمع بين هؤلاء؟

الجواب هو مديري في العمل وأسرته …

فأبوه أسترالي الأصل والولادة والنشأة، وأمه ماليزية هاجرت إلى أستراليا قبل أكثر من أربعين سنة، ولكنها ليست من عرق الملايو، وإنما من العرق الصيني [1]، فبالتالي فإن مديري ولد ونشأ ودرس في أستراليا. أما زوجته إرمينية ولكنها ولدت وعاشت طفولتها في لبنان قبل أن يهاجر والديها بها إلى أستراليا. وأميركا هي مقر إقامته وحيث ولد أبناءه.

فلكم أن تتصوروا مدى التنوع الذي سيظهر في أبنائه من الناحية الجينية، وكذلك من ناحية تنوع الفرص المتاحة لهم لاكتساب أفضل خصائص البلدان التي يرجعون إليها!

مديري السابق واسمه ديفيد وكان وقتها في أواخر الثلاثينيات من عمره رجل نشيط جدا في عمله، وفوق ذلك فهو أب لولدين أعمارهما بأعمار  أطفالي وقتها (ماجد أربع سنوات ولين سنتين). وهو رجل عائلي، حتى أنه في إحدى الاجتماعات تحدث الحضور عن ما قام به كل واحد منهم خلال إجازة نهاية الأسبوع، فعندما جاء دوره ذكر أنه أخذ ابنه الكبير لحديقة الحيوانات، ليس هنا الشاهد، فتمشية الأولاد أمر نقوم به، أو لأكن صريحا مع نفسي أمر نسعى للقيام به، ولكن الملفت أنه أخذ ولده لحديقة الحيوانات للمرة الثالثة خلال أسبوع واحد!

قد ذهلت لمقدرة هذا الوالد المشغول بدوامه من كيفية التوفيق بين التزاماته الوظيفية والعائلية وفوق هذا يخرج إلى حديقة الحيوانات ثلاث مرات مع ابنه، بل عجبت أكثر من صبره على تكرار مشاهدة القرود! ومتأكد أنه لم يذهب ثلاث مرات إلا لأن ابنه ألح عليه في ذلك. ولكم أن تتصورا لو ألح أحد أولادنا للذهاب لحديقة الحيوانات ثلاث مرات في الأسبوع كيف أنه قد يأتيه رد من أبيه أو أمه أن الحديقة احترقت حتى يسكت الولد!

وديفيد وعائلته بالمناسبة لديهم اشتراك سنوي في حديقة الحيوانات ومتحف العلوم، وأجزم كذلك بمتحف الأطفال، وغيرها من الأماكن وذلك لكثرة تمشيته لعائلته في تلك الأماكن.

وكما ذكرت فإن ديفيد نشيط في عمله، فقد وجدته مرة في مكتبه بعد الساعة السابعة فسألته ألم تذهب لبيتك فذكر أنه عنده بيرميشين (إذن)، فضحكت وقلت حتى أنتم في أستراليا عندكم البيرميشن؟ وتحدثت كيف أن بعض الرجال عندنا لديهم وزارات للداخلية في بيوتهم تعطيهم البيرميشين. وبعد هذه الحادثة بكم يوم وجدته مرة أخرى في وقت متأخر، فقال لي هذه المرة أن وزارة الداخلية أعطته البيرميشن.

ديفيد أيضا يحسن معاملة حماته ويتحدث عنها بخير، إذ أنها كانت في زيارة لهم من أستراليا خلال فترة عملي، وكانت تقيم عندهم قبل أن تسوء حالة والدها الصحية، مما اضطرها لقطع زيارتها والعودة إلى أستراليا.

ديفيد يحرص أيضا على الاطلاع على آخر الكتب التي تأتي بها مكتبة الشركة سواء العلمية أو العامة، والتي سيكون حديثي عن أحد هذه الكتب ومؤلفه في الموضوع القادم …

[1] سكان ماليزيا ينحدرون من عدة عروق حسب التوزيع التالي التقريبي: الملايو وباقي السكان الأصليين 61% الصينييون 24% الهنود 7% و 8% المتبقية من أصول أخرى – المصدر: مكتبة وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية.

اليومية القادمة: المحاضرة الأخيرة

شبكات الروبوت 22

 

تحدثت في اليومية السابقة عن ما هي شبكات الروبوت وفي ماذا تستخدم، وفي هذا الموضوع سأتحدث عن بعض من أضرارها على الغير. فأبرزها ابتداء محاولة السيطرة على أجهزة أخرى لتجنيدها وضمها لنفس الشبكة ويكون ذلك عن طريق إرسال رسائل قصيرة لمعرفة إذا كان هناك ثغرة يمكن استغلالها للسيطرة على الجهاز وهو ما يعرف بـ (Scanning) ومن ثم تحميل حصان طروادة. وسيلة أخرى هي استخدام الروبوتات لإرسال الرسائل المزعجة (Spam) للآخرين. وتشير تقارير شركة سيمانتك الربع السنوية والتي تحلل وتناقش التهديدات الأمنية في الإنترنت إلى أن 85-90% من رسائل السبام مصدرها شبكات الروبوت.

من ضمن الأضرار أيضا التي يمكن أن تقوم بها شبكات الروبوتات هو إرسال رسائل لتخمين كلمات السر بالحسابات البنكية وسرقة ما فيها من أموال، وكذلك يمكن استخدام هذه الرسائل لتخمين كلمات السر الخاصة بالقطاعات الحكومية الحساسة ونقل معلوماتها إلى جهات أخرى معادية.

نوع آخر من الأضرار أو الهجمات التي تقوم بها شبكات الروبوت يعرف بـ DoS وهو اختصار لـ (Denial of Service) ويكون عن طريق إرسال رسائل قصيرة فارغة ولكن بكثافة عالية للجهاز الضحية وعادة ما يكون هذا الجهاز تابع لموقع على الإنترنت، الهدف من إرسال هذا الكم الهائل من الرسائل هو استهلاك ذاكرة الجهاز (Memory) أو استهلاك سعة الوصلة التي توصله بالإنترنت (Link Capacity) فبالتالي لا يستطيع تحمل مزيدا من الرسائل وينقطع عن الإنترنت. هذا النوع الأخير من الهجوم قد يتسبب بخسائر مادية للمواقع التجارية تحديدا، وذلك لعدم تمكن زبائنها من الشراء منها خلال فترة تعطلها.

هجمات DoS تكون أحيانا مدفوعة بدوافع سياسية، مثال لذلك هو ما حصل عام 2007 م لدولة أستونيا (إحدى الدول التي استقلت بعد انهيار الاتحاد السوفياتي)، وذلك عندما تعطلت مواقع الوزارات الحكومية، والأحزاب السياسية، والصحف، والبنوك، والشركات بسبب هذا النوع من الهجوم والذي استمر لمدة ثلاثة أسابيع!

فما الذي فعلته أستونيا حتى تصاب بهذا النوع من الهجوم الذي لم يحصل له مثيل من قبل؟ ومن نفذه؟ وما الدافع؟

ترجح التحليلات أن السبب في ذلك يرجع إلى أن أستونيا قامت بإزالة تذكار جندي يرمز للحرب السوفياتية ضد الألمان أثناء الحرب العالمية الثانية، مما سبب غضب عارم لدى الروس فقام أحدهم بتصميم برنامج وطلب من الشعب عن طريق منتديات الإنترنت تحميله على أجهزتهم بحيث قامت هذه الأجهزة مجتمعة بشن الحرب على المواقع الأستونية وتعطيلها وقطع اتصالاتها بالإنترنت! [1]

هذه القدرة التخريبية الهائلة لشبكات الروبوت زادت من اهتمام الباحثين في مجال شبكات الحاسب وأمن المعلومات، ومن قبلهم الجهات الحكومية الأمريكية المعنية، ودعتهم للتصدي لهذا الخطر الجديد عن طريق تصميم برامج وخوارزميات لاكتشاف هذه الشبكات، ومن ضمن هؤلاء الباحثين الفريق الذي أعمل معه في الشركة، وقد تحدثت عن أحد أعضائه (مدج) في الموضوع السابق وسأتحدث عن عضو آخر في الفريق ولكن من زاوية أخرى في اليومية القادمة …

[1] لمعرفة المزيد عن هجوم شبكات الروبوت على دولة أستونيا يمكن مشاهدة هذا التقرير على هذا الرابط http://www.pbs.org/kcet/wiredscience/video/83-world_war_2_0.html

اليومية القادمة: أستراليا، ماليزيا، الصين، لبنان، إرمينيا، أمريكا

شبكات الروبوت 12


حان الوقت للتحدث عن المشكلة التي شاركت في البحث عن حل لها أثناء فترة عملي في الشركة، وسأتحدث فقط عن المشكلة دون الخوض في تفاصيل حلول المشكلة وذلك حرصا على عدم ملل القارئ الغير المتخصص. المشكلة تعرف بـ Botnets، و Bot تعني روبوت، فيصبح المعنى شبكات الروبوت. فما المقصود بالروبوت أو البوت هنا؟

البوت هو عبارة عن جهاز كمبيوتر تم اختراقه عبر شبكة الإنترنت بحيث أصبح تحت سيطرة سيد البوت (BotMaster). اختراق أجهزة الغير ليس بالأمر الجديد ومعروف منذ سنوات عديدة، ويكون عبر تحميل صاحب الجهاز (من غير أن يعلم أنه يقوم بذلك) لبرنامج يسمح للمخترق باستخدام جهازه كما يشاء. مثل هذه البرامج تعرف ببرامج الباب الخلفي (Back Door) أو حصان طروادة [1] (Trojan Horse)، وذلك كناية عن الدخول للجهاز بطريقة مخفية.

كانت المخترقون القدامى (في السعودية على سبيل المثال) يستخدمون مثل هذه البرامج للاطلاع على ما في جهاز شخص آخر من معلومات وملفات شخصية، وكثيرا ما كان الدافع لذلك المتعة والتحدي، ولكن رغم ذلك كنا نسمع عن حالات ليست بالقليلة حصل فيها تعديل أو مسح للملفات الشخصية أو تركيب فيروس على الجهاز، أو حتى استخدام المعلومات ذات الطبيعة الحساسة مثل الصور الشخصية لابتزاز أصحابها. وعندما كثر استعمال الإنترنت في التطبقيات البنكية والشرائية زادت حساسية المعلومات التي يمكن أن يطلع عليها مثل أرقام بطاقات الائتمان أو كلمات المرور للدخول على الحسابات البنكية. ولكن القاسم المشترك بين كل هذه العلميات هو الإضرار بصاحب الجهاز وحده.

بينما في شبكات الروبوت فالضرر أكبر وأوسع!

فالأمر ليس حول الملفات الموجودة في الجهاز المسيطر عليه، لأن هذا الجهاز يستخدم كروبوت لتلقي الأوامر من سيده لتنفيذ عمليات تضر بآخرين غير صاحب الجهاز. وما يزيد من الأمر تعقيدا أن غالب أصحاب الأجهزة المخترقة لا يعلمون بأن جهازهم مخترق وجزء من شبكة روبوتات. وما يجعل الأمر أكثر خطورة هو أن الموضوع غير متعلق بوجود روبوت واحد أو إثنين أو عشرة أو حتى مائة، ولكن وجود شبكات تحتوي على آلاف -بل ربما ملايين حسب تقديرات البعض- من الربوتات تنتظر الأوامر من أسيادها للهجوم والإضرار بأجهزة الآخرين.

ويجدر الإشارة إلى أن الظريف في أمر هذه الربوتات أنها تباع وتشترى عن طريق السوق السوداء وبأبخس الأثمان حتى وصلت لأقل من 5 سنتات أمريكية [2]. حتى أن أحد الزملاء الأمريكيين أثناء دراسة الدكتوارة قام بإجراء بحث لمعرفة مدى انتشار شبكات الروبوت، وكانت وسيلته في ذلك هي مشاهدة إعلانات بيع الروبوتات في السوق السوداء، والتي تكون من قبيل “سارع … تخفيضات …. 100 روبوت بخمسة دولارات! … “. ولست مازحا هنا! فقد يكون جهازك وهو جالس على مكتبك يباع ويشترى ويتربح من ورائه أسياده المتعاقبون على سيادته!

وسيكون حديثنا في الموضوع القادم عن ذكر أمثلة لبعض هجمات شبكات الروبوت كفانا الله وإياكم شرها …

[1] لحصان طروادة قصة معروفة وهي عندما حاصر الإغريق مدينة طروادة، استمر الحصار لسنوات، فصنعوا حصانا خشبيا كبيرا وملؤوه بالجنود، ثم تظاهر الجيش بالانسحاب، وقبل أهل طروادة الحصان على أنه عرض للسلام، وعندما أدخل الحصان الخشبي للحصن خرج الجنود للهجوم على الحصن وسيطروا عليه. وسميت برامج السيطرة على الأجهزة بهذا الاسم كونها تقوم بالدور الذي لعبه حصان طروادة.

[2] ما يباع تحديدا هي المعلومات حول موقع الروبوت وكلمة السر للتحكم به.

اليومية القادمة: شبكات الروبوت 22

هاكر تائب 22

أواصل الحديث عن مدج والبرنامج الذي صممه لكسر كلمات السر، والذي انتقلت ملكيته لشركة سيمانتك بعد شرائها لشركة مدج والتي بدورها أوقفت بيعه بنهاية عام 2006.

وقبل أن أكمل أوضح أن لبرامج كسر كلمات السر استخدامات أخرى غير محاولة معرفة كلمات السر للآخرين، من ذلك بعض الاستخدامات السلمية مثل استرجاع كلمات السر المنسية أو اختبار قوة كلمات السر المستخدمة.

ذكر لنا مدج بلسانه أثناء تناول الغداء مع بعض الزملاء في العمل أنه يوجد بند في عقد شراء البرنامج الذي صممه ينص في أنه حالة توقف الشركة عن بيع البرنامج لأكثر من سنة فإنه يتعين على الشركة بيع البرنامج لمدج بسعر السوق، وحيث أنه مرت أكثر من سنة على عدم بيع البرنامج، فكان مدج وقتها في طور إنهاء الخطوات اللازمة لاسترجاع ملكية البرنامج [1] وهو متحمس لتطوير البرنامج ليتوافق مع الإصدارات الجديدة لنظام التشغيل Windows ويندوز وثم تسويقه كمنتج.

سألت مدج بعدها عن سعر السوق فقال والابتسامة تملئ فاه: زيرو! (صفر) لأن البرنامج حاليا لا يباع. ثم أضاف أنه غالبا سيتم الاتفاق على مبلغ زهيد في حدود 10 دولار لاسترداد الملكية (وربما من أسباب ذلك أيضا حفظ ماء وجه سيمانتك من بيع البرنامج بدون مقابل)، سألته أيضا إن كانت شركة سيمانتك على علم بهذا البند في العقد الذي مكنه من استرداد البرنامج؟ فأجاب أنه فيما يبدو أنهم لم ينتبهوا له خاصة أنه هذا البند كان أحد بنود عقد الشراء لشركة أخرى صغيرة امتلكت البرنامج قبل أن تشتري سيمانتك تلك الشركة الصغيرة، وأضاف أن محاميه أشار عليه بتضمين هذا البند حتى يستطيع استرجاع ملكيته [2]

فهذا درس تعلمته وهو أن شطارة المهندسين والمبرمجين وحدها في أمريكا لا تكفي للحصول على المال ولكن لا بد من شطارة المحامين معهم!

وقد أحسن مدج توظيف مهارته حيث كان من أوائل الهاكرز الذين بنوا علاقات مع القطاعين الحكومي والصناعي، حيث تحدث في مؤتمرات علمية لها مكانتها. ومدج مع ستة من رفاقه كانوا ممن شهدوا أمام لجنة من لجان الكونجرس الأمريكي في عام 1998 أنهم يستطيعون تعطيل الإنترنت خلال 30 دقيقة. وفي عام 2000 دعاه الرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون للالتقاء به ومع وزرائه للتشاور بخصوص الانتشار المتصاعد لاختراقات أمن الإنترنت.

مدج يعد من الجيل الجديد مقارنة بمن سبقت وأن كتبت عنهم من موظفي الشركة، واسمه الحقيقي Peiter Zatko بيتر زاتكو [3]، وتحرص شركة بي بي إن على الاستفادة منه كخبير في مجال الاختراقات من خلال عمله مع فرق العمل التي تعمل على مشاريع الشركة المختلفة.

الجميل في الأمر أنه من أحد أعضاء فريق عمل المشروع الذي أعمل فيه. فهو يحضر اجتماعات المشروع ونتناقش خلال هذه الاجتماعات حول أفضل الحلول الممكنة لمقاومة الخطر الأمني للمشكلة التي كنا نقوم بدراستها في المشروع، والتي سيكون حديثي عنها في الموضوع القادم.

وتستمر شركة بي بي إن بإثبات نفسها كمكان غير عادي


[1] استرجاع ملكية البرنامج تعني استرجاع حقه في استخدام الكود code لأغراض ربحية.

[2] تمكن مدج (بعد انتهاء فترة عملي بالشركة) من استعادة ملكية البرنامج في بداية عام 2009 وقام بعد ذلك طرحه كمنتج تجاري من أسعار تبدأ من 395 دولار. فهنيئا له ولشركائه هذا النجاح.

[3] بعض الأمريكيين لسبب أو آخر يختارون لأنفسهم اسما قصيرا، بحيث يصبح هو الاسم المستخدم لهم وهو ما يعرف بـ Nickname، أحيانا يكون الاسم مشتقا من اسمهم الأصلي (مثال Jimmy لـ James) أو مرتبطا به (مثال Bill لـ William)، وأحيانا يكون الاسم غريبا بعض الشيء ولا علاقة له بالاسم الأصلي، وكثيرا ما يشتهر الشخص باسمه الغريب حتى أن المقربين للشخص (من غير أقاربه طبعا) قد لا يعرفون أصلا أنه يمتلك اسما آخر!

اليومية القادمة: شبكات الروبوت

هاكر تائب 12


تحدثت كثيرا عن تاريخ شركة بي بي إن والإنترنت والأشخاص المساهمين في تطويرها، ولكن لم أتحدث عن بعض من حاضرها.
لذا سأتحدث اليوم عن شخص يعرف بـ Mudge مدج، ومدج هذا سأسوغ لنفسي أن أصفه بـ هاكر “تائب”، وإن كنت أقر أن وصف التائب غير دقيق، ليس لأن التوبة تقتضي الكف عن الذنب ولكن لأن من مقتضياتها القيام بذنب ابتداء، ولا أعلم أن لصاحبنا ذنب سابق [1].

ورغم أن دارسة مدج الجامعية كانت في الموسيقى إلا أن فنه هو في إيجاد الثغرات الأمنية في برامج وأنظمة الإنترنت. وله تاريخ في ذلك، فبحسب موقع ويكيبيديا فقد كان من أوائل من بدأ في دراسة الثغرة الأمنية التي عرفت بـ Buffer Overflow، بل إنه من أوائل من كتب ونشر برنامج لاستغلال هذه الثغرة عندما كان عمره 25 سنة. والمكان لا يسمح بشرح كيفية استغلال هذه الثغرة، ولكن سأذكر أن من أسبابها ضعف المواصفات الأمنية في لغتي C و ++C والمستخدمتين في تصميم كثير من الأنظمة، وأن استغلال هذه الثغرة يعطي للمخترق السيطرة الكاملة على نظام التشغيل [2].

كان لمدج مع مجموعة من رفاقه الهاكرز شقة يجتمعون فيها في بوسطن لتطوير بعض البرامج، أحد الأمثلة برنامج لكسر كلمات السر، وكان هو المطور الأساسي لهذا البرامج. وهذا البرنامج انتقلت ملكيته لشركة Symantec سيمانتك المعروفة بإصدار برامج مكافحة الفيروسات وذلك بعدما اشترت سيمانتك شركة مدج ورفاقه في عام 2004، ولكن بعد فترة من تملك شركة سيمانتك للبرنامج قررت التوقف عن بيعه وذلك في نهاية عام 2006.

فهل كان هذا القرار من شركة سيمانتك هو نهاية هذا البرنامج؟

سنعرف الإجابة في اليومية القادمة …


[1] الهاكر مأخوذة من الكلمة الإنجليزية Hacker والمقصود به المخترق وهو شخص لديه معرفة واسعة ومهارة في إيجاد الثغرات الأمنية في أنظمة وبرامج الحاسب، وبناء على كيفية توظيفه لهذه المعرفة والمهارة يمكن وصفه بهاكر شرير إن استخدم هذه المهارة في سرقة المعلومات أو الأموال، أو هاكر خيّر إن استخدم هذه المهارة للمساهمة في تطوير أنظمة وبرامج الحاسب. وصاحبنا مدج من النوع الثاني.

[2] درسنا هذه الثغرة في مادة أمن الحاسب في جامعة كارنيجي ميلون، حيث أعطانا الدكتور وقتها واجبا للقيام بكتابة برنامج لاستغلال هذه الثغرة في شبكة معزولة عن الإنترنت مخصصة لمثل هذه التطبيقات، وقد قمت مع زميل كوري بكتابة البرنامج ونجحنا في السيطرة على نظام التشغيل! لكني أقر أن الزميل الكوري قام بالدور الأكبر في هذا الواجب، وما ذلك إلا لأني قمت بالدور الأكبر في الواجبات السابقة.

اليومية القادمة: هاكر تائب 22

أزمة الأربعة مليار

استكمالا للحديث عن محاضرة نائب رئيس شركة جوجل فينت سيرف

تحدث عن مشكلة قرب نفاد عناوين الإنترنت وأنه يتوقع في عام 2011 م أن تنفد هذا العناوين بسبب كثرة الأجهزة التي تتصل بالإنترنت، والأجهزة هنا تشمل الحاسبات الشخصية والأجهزة التي تستضيف مواقع الإنترنت أو التي تنظم اتصالات الإنترنت أو تقوم بغيرها من المهام.

وقبل أن أواصل عرض ما ذكر في المحاضرة أود أن أشرح مشكلة نفاد عناوين الإنترنت بشكل مختصر.

كل جهاز يتصل بالإنترنت لا بد أن يكون لديه عنوان رقمي، بما في ذلك الجهاز الذي تتصفح فيه الإنترنت، ويوصف هذا العنوان بـ IP Address و IP هي اختصار لـ Internet Protocol، أي بروتوكول الإنترنت والذي تقوم عليه جميع الاتصالات عبر الإنترنت. كما أن جميع أسماء المواقع (مثال www.bbn.com) مرتبطة بعنوان IP.

العنوان يتكون من 32 خانة ثنائية (بت)، والخانة الثنائية تأخذ قيمتين فقط إما واحد أو صفر، مما يعني أنه بالإمكان أن يكون لدينا بناء على عملية رياضية بسيطة أكثر من أربعة مليار عنوان! [1]

ولكن منذ عشرين سنة تقريبا بدأ يتنبأ خبراء الإنترنت أن الأربعة مليار عنوان لن تكفي وذلك بسبب العدد الكبير المتوقع للمستخدمين والمواقع وباقي الأجهزة الأخرى المتصلة بالإنترنت. مما قاد الباحثين والمهندسين في التسعينيات لتصميم بروتوكول جديد للإنترنت يعرف بـ IPv6 بحيث خصص للعنوان 128 بت، والتي تكفي (ولا تصعقوا من الرقم) لأكثر من 340 مليار مليار مليار مليار عنوان! [2]

الانتقال من البروتوكول القديم إلى الجديد تأخر سنوات ومن أسباب ذلك التكلفة المتمثلة في ترقية البنية التحتية للإنترنت لاستخدام البروتوكول الجديد، إضافة إلى ذلك توفر بعض العلاجات المؤقتة للمشكلة [3]. ولكن ما أخبرنا عنه سيرف أنه في عام  2011 م سيضطر الناس للانتقال إلى استخدام البروتوكول الجديد لأن الأربعة مليار عنوان وقتها لن تكفي!

الطريف فيما ذكره سيرف هو إقراره بأنه هو المتسبب في هذه الأزمة، لأنه هو من أشرف قبل حوالي 30 سنة على تصميم البروتوكول الحالي، ويواصل حديثه أنه تناقش فريق العمل وقتها حول عدد الخانات التي ستعطى للعنوان، وأن الآراء كانت منقسمة بالتساوي بين استخدام 32 بت و 128 بت، فقرر هو استخدام 32 بت لأنه عدد أصغر، ولأن الإنترنت في ذلك الوقت كانت مجرد تجربة. ثم أضاف ساخرا أن هذه التجربة لم تنتهي إلى الآن، وأن التطبيق الفعلي لها سيكون عند استخدام البروتوكول الجديد!

طبعا الرجل لا يلام لأن من كان سيتوقع أن تصل الإنترنت إلى ما وصلت إليه الآن …


[1] حساب هذا الرقم مبني على وجود 32 خانة، كل خانة تأخذ قيمتين، فيكون مجموع الاحتمالات الممكنة هو أن تضرب رقم 2 في نفسه 32 مرة، وهو ما يعرف بالرياضيات بالقوى، ويصبح الناتج 4294967296.

[2] يعاد تطبيق نفس العملية بضرب رقم 2 في نفسه 128 مرة، ولكن الناتج لضخامته لا يمكن كتابته.

[3] من تلك الحلول استخدام عناوين محلية داخل كل شبكة صغيرة (مثال شبكة المنزل) بحيث تتصل أجهزة الشبكة الصغيرة بالإنترنت عن طريق جهاز واحد وبعنوان واحد، وهو ما يعرف بـ (NAT) وهي اختصار Network Address Translation.

اليومية القادمة: هاكر تائب