خواطر مبتعث بعد غياب عامين عن الرياض

نشرت هذا المقال قبل أربع سنوات في مجلة “صوت المبتعث” المحتجبة، وأعيد نشره في مدونتي.

ما لفت نظري بعد إعادة قراءة المقال هو كيف أني لم أعد أستشعر كيف كانت شوارع الرياض وأسواقها قبل ست سنوات من الآن! يبدو أن ذاكرتي بفعل كثرة التغيرات وسرعتها لم تعد قادرة على تذكر ما كان يحدث قبل سنوات بسيطة، فما بالكم بتذكر ما حدث قبل سنوات كثيرة!

جامع الراجحي – الرياض

بعد غياب عامين عن الرياض

خواطر مبتعث

أكتب خواطري هذه خلال زيارتي الأخيرة للرياض في صيف 2006 م الموافق لعام 1427 هـ، وذلك بعد مرور عامين كاملين لم أزر فيهما مدينة الرياض. وقد تسنى لي بعد غياب هذه المدة رؤية مقدار التغير الذي طرأ على المدينة. مما ولد في نفسي خواطر أحببت أن أسجلها وأشاركها مع غيري من سكان عاصمة بلدنا الغالي وخاصة زملائي المبتعثين الذين حال بينهم وبين زيارتها إما انتهاء تأشيرات دخولهم، وخوفهم من عدم إعادة إصدارها عند زيارة الرياض أو انشغالهم بمتطلبات الدراسة. وقد ارتأيت أن أقتصر على ما يشاهده الزائر من تغير أثناء تجواله في شوارع ومعالم العاصمة والتي تدخل ضمن ما يمكن وصفه بالتغيرات العمرانية والمدنية، والتي هي بدورها نتاج لتغيرات في أنماط وسلوكيات الناس. دون الخوض في تفصيل التغيرات التي طرأت على هاتين الأخيرتين وذلك لعظم التغير فيهما، ولكونهما يستحقان تدوينا مستقلا مع مزيد من التدقيق والملاحظة.

لعل أول ما يلاحظه زائر مثلي عند قدومه من المطار الازدياد الهائل في أعداد المجمعات والأسواق التجارية الحديثة، فقد اكتظ الطريق الدائري الشرقي على سبيل المثال مع مخارجه المتعددة ومن شماله إلى جنوبه بأسواق ومجمعات عدة، بعدما كانت الأراضي الخالية هي السمة السائدة في أغلب جنباته. وبذلك لم تعد الأسواق حكراً على الأحياء الممتدة على طريق الملك فهد، بل إنني عندما أقود سيارتي في بعض أجزاء الطريق الدائري الشرقي أحس أنني في طريق الملك فهد وذلك من شدة ازدحام الطريق الناتج عن هذا النمو، هذا مع أن الطريق صار يحوي خمسة مسارات، وبه مخرجان مصممان حديثا بتصميم ذكي يسهل حركة المرور ويستغني عن الإشارات المرورية. كما أن الطريق الدائري الشمالي بدأ يلحق بأخيه الشرقي، فقد أصبح الطريق يحوي خمسة مسارات وبدأت تظهر المجمعات على جانبيه، بل وأصبحت حركة السير فيه شبيهة بحركة السير على الطريق الدائري الشرقي سابقاً بعدما كان قبل سنوات قلائل فقط طريقا شبه خاوي. لا شك أن لاتساع مساحة الرياض المستمر وازدياد عدد السكان والذين يقارب الأربعة ملايين ونصف نسمة دور في ازدياد عدد الأسواق، فقد وفر هذا النمو فرصا تجارية واستثمارية ببناء مجمعات وأسواق عدة والابتعاد عن مراكز التسوق الأخرى في المدينة، وفي هذا التوسع خدمة لسكان الأحياء التجارية الأخرى عن طريق تخفيف تزاحم السيارات على أحيائهم.

بيد أن ما سبب استيائي البالغ استخدام ملاك المجمعات والأسواق التجارية الحديثة لكلمات أجنبية مثل سنتر، مول، جاليريا، بلازا، سيتي، لاند، هايبر ماركت. ويلاحظ في هذه الكلمات أنها أوصاف وليست مسميات، إذ قد يتعذر بعض ملاك هذه المجمعات بعدم وجود مسميات عربية مناسبة لم يسبقهم غيرهم إليها، ولكن المشاهد أن غالب أسماء الأسواق هي هجين بين لغتين، فتجد اسما عربياً ووصفاً أجنبياً. حقيقة أبدي امتعاضي واستغرابي الشديدين لهذه الظاهرة والتي لم تكن موجودة من قبل فضلاً أن تكون منتشرة. والتي تدل على عدم اعتزاز باللغة العربية لدى المستثمرين والمستهلكين على حد سواء، ورغبة في محاكاة الغرب وتقليده بطريقة سطحية دون الاعتبار بمكونات مجتمعنا الثقافية والتاريخية. كان بودي من أمانة مدينة الرياض، وهي الجهة المسؤولة عن إصدار تصاريح هذه المحلات التجارية، أنها لم تسمح باستخدام هذه الأوصاف الأجنبية، بل وليتها تبحث عن وتتبنى أوصافاً عربية موحدة بديلة للمفرادات الأجنبية كمول، جاليريا، بلازا، هايبر ماركت، واللفظة قديمة الاستخدام سوبر ماركت. وبعدها إن رغب ملاك المجمعات باستخدام وصف أجنبي فلا بأس أن يكتب باللغة الإنجليزية بحيث يكون ترجمة للوصف العربي ومكتوباً بجانبه كما هو مشاهد لدى بعض المجمعات.

لعل استخدام المسميات والأوصاف الأجنبية هو التغير الأبرز الذي ساءني خلال زيارتي، ولكن في المقابل هناك تغيرات عدة أعجبتني أو لفتت انتباهي، فمما لاحظته فتح فروع لجمعيات البر التابعة لمدينة الرياض وتواجدها في مواقع واضحة على الطرق الرئيسية بدلاً من داخل بعض الأحياء السكنية فقط، وهذا بدوره يسهل على المواطنين والمقيمين التنبه لها وتقديم التبرعات لها حتى تصرف على الفقراء والمحتاجين داخل الرياض. ومما أعجبني أيضا قيام بعض مكاتب الدعوة وتوعية الجاليات بوضع طاولة عند مداخل بعض الأسواق التجارية تحتوي على كتب دعوية وتعليمية لغير المسلمين أو لمن أسلم حديثا من الجاليات المتعددة التي تقطن الرياض، وأعتقد أن في ذلك وسيلة قوية في الدعوة إلى ديننا العظيم بطريقة ناضجة تسهم بالوصول إلى أعداد كبيرة من المتسوقين الذي يرتادون هذا السوق بشكل دوري. ومما سرني كثيرا إنشاء مراكز الأحياء الاجتماعية، بغرض تنظيم بعض الأنشطة الاجتماعية على مستوى الحي، المشروع حسب ما فهمت في بداياته الأولى لذا أسأل الله للقائمين عليه النجاح والتوفيق. هذا التوسع في مثل هذه المرافق إشارة إلى اهتمام أكبر من القائمين على هذه المناشط بالوصول للناس والذهاب إلى مراكز تجمعاتهم وتواجدهم، وعدم الاكتفاء بالبقاء في نفس الموضع وانتظار أن يأتي الغير إليك. ولا يسعني هنا إلا أن أحيي هذا السلوك الجميل والذي يحرص على نشر الخير للناس بالنزول إلى أماكنهم.

ومما أعجبني كذلك العدد الكبير من الإعلانات والملصقات المعلقة عند أبواب المساجد للدورات العلمية الشرعية المقامة في مختلف الجوامع في العاصمة من دروس في المتون إلى محاضرات في المعاملات المالية إلى دورات مكثفة لحفظة القرآن تشترط اجتياز مقابلة شخصية للتأكد من جدية الحاضرين. فكم هو جميل أن يقام خلال الإجازة الصيفية هذا العدد الكبير من الدورات الشرعية إضافة لأنشطة الأندية الصيفية الهادفة في أرجاء المدينة مما ييسر للمرء الاستفادة من وقته وحفظه بدلا من تضييعه مما لا طائل فيه. وقد صاحب هذا الازدياد في عدد ونوعية الدورات قيام عدد من الجوامع الضخمة الحديثة البناء، والتي ربما يصح أن نطلق عليها مراكز إسلامية كما هي التسمية الأكثر استخداما في الولايات المتحدة وذلك لعدم اقتصار هذه الجوامع على أداء الصلوات الخمس والجمعة فقط وتعديها لإقامة حلقات لتحفيظ القرآن مع الاستعانة بالتقنية الحديثة بغرض متابعة وتسجيل ما يحفظه الطالب وجعله متوفرا لولي أمره عن طريق الإنترنت، وهو ما يعرف بنظام الحلقة الإلكترونية، إضافة لإقامة عدد من الدورات والمحاضرات والأعمال الخيرية، ولعل أبرز هذه الجوامع من حيث الموقع والمساحة والخدمات التي يقدمها هو جامع الراجحي الجديد الواقع على الطريق الدائري الشرقي، حيث أني أستذكر عند دخوله دخول أحد الحرمين الشريفين وذلك لكثرة الناس فيه وكثرة ملحقاته. وربما يكون لتوفيره ماء زمزم بنفس الطريقة التي يوفرها الحرمان الشريفان دور في هذه المقارنة، والتي بالطبع تقف عند حدود المقارنة المعمارية دون الاقتراب من فضيلة المكان أو أجر الصلاة فيه.

ومن الأمور الرائعة التي قامت بها أمانة مدينة الرياض تهيئة عدة أرصفة عريضة لممارسة رياضة المشي معدة بجلسات للراحة في عدد من أحياء الرياض أسوة بالرصيف الذي اشتهر بمضمار أو شارع الحوامل على طريق الملك عبدالله، وفي هذا تشجيع للأفراد والعائلات لممارسة رياضة المشي بدلا من إضاعة الأوقات الطويلة في المقاهي أو عبر مكالمات الجوال، إذ قد حدثت طفرة هائلة في أعداد محلات هذين الأخيرين وبشكل ملفت لا يمكن للمرء ألا يلاحظه. فالمقاهي تراها أينما ذهبت حتى ضمن ملحقات محطات الوقود في بعض الأحيان، وهي مهيئة بأثاث فاخر وتقدم شتى الأصناف من المشروبات الساخنة والباردة والحلويات، بل وفي الكثير منها شبكة اتصال محلية لاسلكية لتصفح الإنترنت مما يغري بالمكوث فيها لفترات أطول وأطول. كما أن محلات أجهزة الهاتف الجوال بلغت عددا مهولا، حتى أنك قد تجد في شارع تجاري عادي أكثر من عشرة محلات متلاصقة، وكأن الناس لا شغل لهم إلا شرائها وبيعها واستبدالها، مما يجعلني أتساءل كم مقدار ربح شركة نوكيا على سبيل المثال من السوق السعودي، ولماذا لا تقوم بفتح مصنع لها هنا، فالناس يتسابقون على شراء الجديد من هذه الأجهزة بشكل غير معقول.

ومن ضمن التغيرات ما طرأ على وسائل الدعاية والإعلان، فقد باتت النشرات الإعلانية تصل إلى البيوت بشكل أكبر ويتم وضعها من تحت أبواب المنازل، بعضها من إصدار محلات تجارية بذاتها، والأخرى وهو ما لم أعهده من قبل، مجموعة إعلانات مبوبة على شكل نشرة من إصدار جهة خاصة توزع بشكل دوري تذكرني بالكوبونات التي ترسل ضمن مجلة خاصة على صناديق البريد في الولايات المتحدة، وأعتقد أنه في المستقبل القريب ستصل مثل هذه النشرات الدعائية إلى صناديق البريد المثبتة حديثا على أسوار بيوت الرياض، والتي لم يكن منظرها معروفا قبل أشهر قليلة. كما أن المتجول في شوارع العاصمة يكاد يشاهد بشكل يومي ملصقات لنصرة النبي صلى الله عليه وسلم علقت أثناء حملة مقاطعة المنتجات الدانماركية مثل إلا نبينا، إلا حبيبنا، إلا محمد، فداك يا رسول الله. يشاهدها المرء على الزجاج الخلفي للسيارات وعند مداخل المحلات التجارية بل وداخل مباني كبريات الشركات. إضافة إلى بقايا ملصقات هذه الحملة فإن هناك لوحات لحملتين أخريين، الحملة الأولى حملة توعوية تحت شعار “يكفي” بهدف تقليل المخالفات والحوادث المرورية وتحسين مستوى القيادة في الرياض والذي والحق يقال أنه بلغ حدا كبيرا من الاستهتار في مخالفة الأنظمة مما نتج عن عدد مروع من الوفيات. أما الحملة الأخرى فهي بهدف تشجيع ومساعدة المدخنين والمدخنات على الإقلاع عن هذه العادة الذميمة، حيث تم تخصيص أرقام هواتف للرجال والنساء الراغبين بالإقلاع عن التدخين بغرض مساعدتهم وإعانتهم. ومن المعلوم ما لمثل هذه الحملات ذات الأهداف النبيلة من أثر في الوصول إلى عدد أكبر من الناس بغرض إقناعهم بأسلوب مباشر ومؤثر.

هذا ما تيسر لي مشاهدته من متغيرات تمت في عامين فقط. ترى كم سيكون مقدار التغير بعد عامين آخرين من الآن؟