وجبة غداء مع عالم تشيف 3\3

أواصل حديثي عن الدكتور جان مخول …

لم أرد أن يقتصر حديثي مع عالم بهذه المكانة على الأكل والمطاعم اللبنانية، ورغبت بالاستفادة من هذا اللقاء ومعرفة كيف وصل شخص مثل مخول (عربي الولادة والنشأة والدراسة) إلى هذه المكانة العلمية المرموقة. وأسهل طريق إلى معرفة ذلك بطبيعة الحال هو سؤاله مباشرة.

فطرحت عليه السؤال التالي: دكتور جان كطالب دكتوارة شاب أرغب بالاستفادة من خبرتك كدكتور شاب (طبعا ابتسم لأني نسبته لسن الشباب) ثم أكملت سؤالي وقلت: أريد معرفة كيف وصلت إلى ما وصلت إليه؟

فأجاب بأنه بعدما حصل على درجة الدكتوراة من قسم الهندسة الكهربائية في معهد ماسيتشيوسيس للتقنية عام 1970 م في مجال تحليل الإشارات Signal Processing، عمل في شركة بي بي إن، وهناك بدأ بالبحث في موضوع معين في مجال تحليل الإشارات ونشر ورقة علمية من 4 صفحات في أحد المؤتمرات العلمية. وأكمل حديثه وذكر أن مديره وقتها اطلع على الورقة وقال له: إذا أمكن أن تتوسع قليلا في شرح ما ذكرت في الورقة حتى يسهل فهمها لشخص مثلي غير متخصص في مجال تحليل الإشارات.

فكانت هذه الحادثة بداية لبحث طويل لفهم الموضوع الذي بدأ العمل عليه، وبعد 6 أشهر من البحث والقراءة انتهى به الأمر بتقرير من 237 صفحة في هذه الموضوع! وبعدها وبناء على توصية من أحد الأساتذة الذين قرؤوا التقرير وُجهت له دعوة لكتابة ورقة مطولة عن الموضوع، ونشر هذه الورقة منفردا في إحدى المجلات العلمية المرموقة التابعة لجمعية مهندسي الكهرياء والإلكترونيات IEEE وذلك في عام 1975 م. فكانت هذه الورقة هي ما أعطاه المكانة العلمية في مجاله، وذلك بعد 5 سنوات فقط من تخرجه، وكان عمره وقتها 33 سنة. ثم واصل حديثه وشرح لي كيف أنه صرف كثيرا من وقته خارج أوقات الدوام خلال المساء وعطلة نهاية الأسبوع لإنهاء هذا البحث. ثم تكررت هذه التجربة مرة أخرى في موضوع علمي آخر، ونشر في نفس المجلة ورقة علمية أخرى من 38 صفحة بالتعاون مع باحثين آخرين عام 1985 م، وكانت هذه الورقة ككتاب مصغر في هذا المجال مما عزز من مكانته العملية.

وكان مخول خلال لقائي معه في أكثر من مرة يؤكد على أهمية العمل التطوعي مثل المشاركة في تنظيم المؤتمرات العلمية أو تحرير المجلات العلمية أو الانخراط في إدارة الجمعيات العلمية أو المشاركة في مجالس الأمناء الخاصة بها كعنصر مكمل مهم (وليس مستقل بذاته) لحياة المرء المهنية، وذلك حتى يحصل على تقدير أقرانه، وأضاف أن الأشخاص الوحيدين الذين يمكنهم الاستغناء عن العمل التطوعي والحصول على تقدير أقرانهم من غير العمل التطوعي هم الذين يملكون قدرا هائلا من التميز في مجالهم العملي والمهني وهم قليلون، ويبدو لي أن تواضع مخول يجعله لا يعد نفسه منهم، فبالرغم من مكانته العلمية العالية فقد شارك في كثير من الأعمال التطوعية.

ثم أسدى لي نصيحة بخصوص الأعمال التطوعية وهي الابتعاد عن الأعمال التي تتطلب قدرا كبيرا من الجهد، والتركيز على الأعمال ذات التأثير والتي تناسب اهتمامات المرء وميوله، وضرب مثال على ذلك أنه شارك مرة في اللجنة المنظمة لإحدى المؤتمرات التي أقيمت في بوسطن، ولكنه لم يرد أن يرأس المؤتمر لكثرة أعبائه والأعمال الإدارية التي على الرئيس متابعتها، ولكنه رأس الجانب العلمي (التقني) من المؤتمر، لأنه يناسب ميوله ويركز على الجوانب العلمية من المؤتمر.

بعدما سمعت ما قاله لي عن العمل التطوعي أحسست بأن كلامه ينطبق أيضا على طلبة الجامعات، فالجانب الأساسي هو الدراسة بطبيعة الحال، والأنشطة الطلابية عنصر مكمل مهم. فذكرت له أني كنت أشارك وقتها في عدة أنشطة في جامعتي وكان من ضمنها رئاسة نادي الطلبة السعوديين في بتسبرغ. فذكر لي انخراطه في منظمة الطلبة العرب عندما كان طالبا حتى أنه صار رئيسها وكيف كان لزملاء الدراسة وأنشطة المنظمة دور أساسي في زيادة وعيه السياسي [1]. وتحدث بعدها عن أهمية المشاركة في الأنشطة الطلابية أثناء فترة الدراسة لصقل شخصية الطالب، مع تشديده على أن الأمر الأهم هو الجانب الدراسي وأن الأنشطة الطلابية مكملة لهذا الجانب، وأن الاستغراق فيها وإهمال الجانب الدراسي لا يصب في مصلحة المرء.

بعد هذا الحديث الممتع والغداء الشهي كان علينا الانصراف والعودة للشركة، فركبنا السيارة وواصلنا الحديث أثناء عودتنا للشركة، ولعل أبرز ما ذكره لي أثناء عودتنا للشركة هو ضرورة العمل الجماعي في الشركة بشكل خاص وفي العمل البحثي بشكل عام، ولذلك فإن حسن التعامل مع الآخرين مهم جدا حتى يرغب الناس بالعمل معك، وإلا سيساهم هذا في فشل عملك في الشركة لعزوف الآخرين عن العمل معك، وأن الأشخاص الوحيدين الذين يمكنهم التعامل مع الناس كيفما أرادوا هم من بلغوا مكانة علمية عالية بحيث تجبر الآخرين على العمل معهم حتى لو لم يكن تعاملهم حسنا.

واستمررنا بالحديث حتى وصلنا للشركة … وشكرته عندها على دعوته وحسن مجالسته وعلى نصائحه القيمة.

[1] قامت منظمة الطلبة العرب في معهد ماسيتشيوسيس للتقنية في عام 2004 م برصد جزء من تاريخ المنظمة وطلبت شهادات الناشطين السابقين في المنظمة، وكان من ضمنهم جان مخول، ويمكن قراءة ما كتبه مخول على هذا الرابط http://web.mit.edu/arab/oldwww/History/makhoul_testimony.html، وكان من ضمن ما ذكره استضافتهم للكاتب والمفكر الأمريكي الشهير نعوم تشومسكي في أول محاضرة له عن الشرق الأوسط، وكان ذلك في بداية عام 1967 م!

اليومية القادمة: مع العالم التشيف مرة أخرى