طلاب جامعة كارنيجي ميلون .. أبطال العالم!

أواصل الحديث عما تحدثت عنه مانويلا فيلوسو الأستاذة في كلية علوم الحاسب بجامعة كارنيجي ميلون عن إنجازات فريق جامعة كارنيجي ميلون في بطولات كأس العالم لكرة القدم للروبوت، والتي تعرف باللغة الإنجليزية بـ Robot Soccer World Cup أو اختصاراً Robocup. فما هي هذه البطولة؟ [1]

هي بطولة سنوية عالمية بدأت في التسعينيات الميلادية، تشارك فيها جامعات مختلفة بتصميم روبوتات لتلعب لعبة كرة القدم ضد البعض، والهدف من البطولة هو تنمية البحث والتعليم. وتتكون البطولة من عدة مستويات بناء على حجم الروبوت، وتهدف البطولة مع حلول عام 2050م -حسب ما هو مذكور في موقع البطولة- إلى تصميم وتصنيع فريق كامل من الروبوت المتكامل الشبيه بالإنسان بحيث يلعب مباراة أمام بطل كأس العالم حسب قوانين الفيفا، ليس هذا فحسب بل يفوز في تلك المباراة! يبدو هدف خيالي ومجنون خاصة فيما يتعلق بهزيمة بطل كأس العالم. ربما يستطيع الفريق هزيمة بطل كأس آسيا في تلك السنة .. من يدري؟

عودة لحديث مانويلا، تحدثت وكأنها معلق رياضي لا أستاذة جامعية خاصة عندما تعرض أهداف الفريق، وبعد كل هدف تقول بوووم، وبدأت تتحدث عن فريق جامعتي واسمه CMDrangons تنينات كارنيجي ميلون [2]، والذي يتكون من أساتذة وطلبة من قسم الروبوتات في كلية علوم الحاسب. وكيف أننا أبطال العالم خلال عامي 2006 و2007م في بطولة الروبوتات الصغيرة الحجم. وأرتنا بعض اللقطات. وبدأت تشرح كيف أنه خلال البطولة في عام 2006م برمجموا الروبوت بحيث إذا واجه حائط صد أمامه عند تسديد الكرة، يمررها إلى زميله الروبوت الآخر .. وبوووم يسجل هدف! ثم شرحت أن هذا التكتيك أصبح مستخدماً من الفرق الأخرى في البطولة التي تلتها وذلك أن الهدف من البطولة ليس التنافس بقدر ما هو التعلم، ولذا فإن كل ما يقوم به الفريق من تصميمات وما يكتب من برامج ينشر للآخرين . ثم شرحت أنه في بطولة 2007م برمجوا الروبوت بحيث يرجع للوراء حتى يستلم الكرة المناولة له من قبل زميله الروبوت الآخر، وقالت أنه في تلك البطولة وأثناء مباراتهم النهائية انتهى الوقت الأصلي بالتعادل أمام فريق من جامعة في تايلاند، ولجؤوا لركلات الترجيح، وفاز فريق التنينات عن جدارة واستحقاق. ثم واصلت حديثها وكيف أن غالب الفرق عندما تعرض لقطات فيديو لمبارياتها تحتاج إلى تسريع التشغيل تجنباً لملل المشاهد، بينما في مباريات فريقنا فيحتاجون إلى إبطاء التشغيل حتى يستطيع المشاهد متابعة مجريات المباراة، فكم هو جميل أن يقولب التعليم والبحث العلمي بقالب تنافسي مرح.

بعدها ذكرت أن البطولة القادمة ستكون الشهر القادم (خلال عام 2008م) في الصين وأنها على الرغم من رغبتها بالحديث عن التكتيك الذي سيتبعه فريق التنينات إلا أنها لن تتحدث عنه. ولكني أخبركم أن فريق تنينات كارنيجي ميلون وصل للمبارة النهائية ولعب ضد نفس الفريق من تايلاند، وانتهى الوقت الأصلي كذلك بالتعادل، ولجؤوا مرة أخرى لركلات الترجيع ولكن خسر فريق التنينات هذه المرة ولكن بشرف! [3]

بعد انتهاء لقاء الخرجين خرجنا للعشاء، ثم ذهبنا لألجيرز كافيه وقضينا الليلة هناك، ولم أمل من ذلك المقهدى رغم أني قضيت فيه صباح ذلك اليوم مع مشرفي جوزيه.

[1] موقع Robocup: http://www.robocup.org
[2] موقع CMDrangons: http://www.cs.cmu.edu/~robosoccer/small
[3] يمكن مشاهدة لقطات لمباريات الفريق في موقع اليوتيوب على هذه الروابط:

اليومية القادمة: لا يوجد .. فهذه آخر يومية في “يوميات باحث في مهد الإنترنت” والتي في طريقها الآن للنشر بإذن الله

وتبقى الصلة بعد التخرج

تحرص الجامعات الأمريكية على عدم انقطاع الصلة بينها وبين طلبتها الذين تخرجوا منها وذلك عن طريق توفير خدمات للذين تخرجوا من جامعاتها، وتتمحور هذه الخدمات حول بناء علاقات بين الطلبة السابقين أنفسهم من جهة وبينهم وبين الجامعة من جهة أخرى. هذه العلاقات تتيح للطلبة المتخرجين الاستفادة من بعضهم البعض في سوق العمل، وتفيد كذلك الطلبة الذين على وشك التخرج للحصول على وظيفة مناسبة لهم من خلال تواصلهم مع من سبقهم من الطلبة، كما أن الجامعة تستفيد من إبقاء علاقتها مع طلبتها السابقين من خلال التبرعات المادية أو العينية التي يقدمونها للجامعة أو من خلال الجانب الدعائي للجامعة إذا أصبح أحدهم من المشهورين إعلامياً أو سياسياً أو من البارزين في مجال تخصصهم.

أما عن كيفية بناء هذه العلاقات والمحافظة عليها، فتكون عن طريق إقامة الاحتفالات السنوية في مقر الجامعة والتي يدعى لها الخريجون، أو من خلال تنظيم المناسبات الاجتماعية في عدد من المدن المختلفة. ولأن بوسطن من المدن الكبيرة في الولايات المتحدة فإن جامعة كارنيجي ميلون تقيم فيها بشكل مستمر مناسبات اجتماعية لطلبتها السابقين، خاصة وأن بوسطن تحتضن الكثير من الشركات العاملة في مجال الأبحاث العلمية والتطبيقية إضافة لشركات أخرى تعمل في المجالات التقنية.

وقد حضرت أثناء فترة عملي في شركة بي بي إن مناسبتين اجتماعيتين، الأولى أقيمت في منزل أحد الخريجين والمطل على البحر، والملفت أن هذا الخريج تخرج من الجامعة قبل أن يولد غالب الحضور، إذ تخرج عام 1954م، وتخيلوا أنه ما زال لديه شعور الانتماء للجامعة. شخص آخر رأيته ذلك اليوم تخرج من الجامعة عام 1959م وهو عضو في مجلس أمناء فرع جامعة كارنيجي ميلون في قطر، أو شيء قريباً من ذلك (إذ لا أذكر)، وكان يلبس قميصاً مكتوب عليه اسم فرع الجامعة في قطر إضافة إلى عبارة مكتوبة باللغة العربية وهي “بالعمل ينبض قلبي”، وهي مقولة كان يقولها مؤسس الجامعة الأصلية في مدينة بتسبرغ رجل الأعمال أندرو كارنيجي، والمقولة باللغة الإنجليزية هي “My Heart is in the Work”.

أما المناسبة الثانية فقد كانت مخصصة لخريجي قسم هندسة الكهرباء والحاسب وخريجي كلية علوم الحاسب، وقد أقيمت هذه المناسبة في الدور العلوي في متحف العلوم في بوسطن، وذلك في قاعة تطل على منظر جميل وخلاب، إذ كنا نرى معالم مدينتي بوسطن وكامبريدج ونهر تشارلز الذي يفصل بينهما. وهي نفس القاعة التي أقيمت فيه نفس المناسبة في العام الذي قبله، والتي حضرتها كذلك عندما كنت أعمل في شركة سيسكو على بعد ساعة شمال بوسطن.

وقد حضر معي لهذه المناسبة في متحف العلوم أخي ناصر والذي كان يزورني، إضافة إلى زميلي في القسم زياد البواب من لبنان والذي كان يعمل في الصيف في مركز الأبحاث التابع لشركة ميتسوبيشي وزميلنا السابق في القسم عمار السيد من السودان والذي يعمل في شركة ماث وركز [1]. كما كان من بين الحضور مشرفي على بحث الدكتوراة جوزيه مورا الأستاذ في قسم هندسة الكهرباء والحاسب وزوجته مانويلا فيلوسو الأستاذة في كلية علوم الحاسب. وقد تحدث جوزيه في الاجتماع عن الجامعة وعن علاقاتها بمؤسسات وجامعات في بلدان أخرى مثل قطر واليونان والبرتغال واليابان. هذا التوسع من الجامعة في علاقاتها خارج الولايات المتحدة على الرغم من أنها أكثر تميزاً من الناحية العلمية والبحثية من المؤسسات والجامعات في تلك الدول يبرز أهمية ألا تعزل جامعة نفسها عن باقي العالم خاصة وإن كانت تعقد العلاقات مع من هو أكثر تميزاً منها.

ثم تحدثت بعده زوجته مانويلا وكان حديثها عن أمرين، الأول عن مبنى مركز جيتس (نسبة لبيل جيتس وزوجته ميلندا) الذي يبنى حالياً في الجامعة [2] وذلك لأنها أحد المشرفين على المشروع، وسبب تسمية المبنى على جيتس (مؤسس ورئيس مجلس إدارة شركة مايكروسوفت) راجع لسبب بسيط وهو أن مؤسسته هو وزوجته الخيرية تبرعت بمبلغ 20 مليون دولار لبناء المبنى. وتجدر الإشارة إلى أن تبرع الأثرياء ورجال الأعمال الأمريكيين بمبالغ ضخمة جداً على هذا النحو أمر طبيعي، إذ خلال فترة تواجدي في الولايات المتحدة سمعت عن ثلاث حالات مماثلة في جامعات مختلفة، أحدها في جامعتي إذ تبرع رجل الأعمال ديفيد تيببر بمبلغ 55 مليون دولار لكلية إدارة الأعمال شريطة أن تسمية الكلية باسمه، وقد حثه على التبرع أستاذه السابق بالكلية والذي أصبح عميدها فيما بعد بهذا التبرع [3]. كما أني قرأت في خبر أن الأمريكيين أكثر تبرعاً بأموالهم من الأوروبين، وسمعت أنهم لا ينظرون بكثير من التقدير لأصحاب الثروات إذا كان مصدر ثروتهم ما ورثوه عن والديهم، وذلك لأنهم يعززون من قيمة استقلال الفرد وبناء نفسه بنفسه، بما في ذلك أن يحصل على ثروته بنفسه، ومثال واضح لذلك هو حرص الفتى أو الفتاة حال تخرجه من المدرسة على السكن وحده خارج بيت والديه. قد يستغرب المرء العربي هذه الاستقلالية لدى الأمريكيين في بعض الأحيان، إذ نحن نعزز من أهمية الترابط بين أفراد الأسرة، والابن فضلاً عن البنت يستمر في السكن مع والديه إلى أن يتزوج أو يغادر مدينة والديه للدراسة أو العمل، هذا إذا لم يستمر في السكن مع والديه بعد زواجه. ولست هنا أفضل قيم الأمريكيين على قيم العرب، إنما أقارن بينهم فحسب، وأعتقد أن خير الأمور الوسط بحيث لا نغلب قيمة على أخرى فتطغى عليها.

أما الأمر الثاني الذي تحدثت عنه مانويلا فهو عن إنجازات فريق جامعة كارنيجي ميلون في بطولات كأس العالم لكرة القدم للروبوت. فما هي هذه البطولة؟ وما قصة جامعتي معها؟ سيكون هذا حديثنا في اليومية القادمة ..

[1] سبق الحديث عن شركة ماث وركز في يومية فنادق الإمارات وشركة MathWorks.
[2] تم افتتاح المبنى لاحقاً بتاريخ 22/9/2009م.
[3] بعد انتهائي من الدراسة وعودتي لجامعة الملك سعود قام رجل أعمال آخر بالتبرع لجامعة كارنيجي ميلون بمبلغ فلكي وذلك في شهر سبتمبر من عام 2011م، حيث قام بيل ديتريتش بالتبرع بملبغ 265 مليون دولار للجامعة! ويعد هذا أكبر تبرع حصلت عليه الجامعة في تاريخها ومن أكبر عشر تبرعات قام به فرد لجامعة أمريكية خاصة. وقد قامت الجامعة كتقدير له بتسمية كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية باسم والدته. ثم قام ديتريتش في نفس الشهر من ذلك العام بالتبرع بمبلغ 125 مليون دولار لجامعة بتسبرغ، وتقديراً لذلك قامت الجامعة بتسمية كلية الآداب والعلوم باسم والده. وبعدها قام بالتبرع بعدد من الملايين لعدة جامعات ومؤسسات في مدينة بتسبرغ بلغ مجموع تبرعاته 85.6 مليون دولار ودفعت لإحدى عشر جامعة ومؤسسة. الملفت في الأمر أن المتبرع توفي بعد أقل من شهر من تبرعه الأول. وقد بلغ مجموع تبرعاته قرابة النصف مليار دولار وبهذا يكون مثالاً نادراً لرجال أعمال سخي وبار بوالديه يجدر بكثير من رجال الأعمال في المنطقة العربية أن يحذوا حذوه.

 

اليومية القادمة: طلاب جامعة كارنيجي ميلون .. أبطال العالم!

المحاضرة الأخيرة

نشرت هذه اليومية كمقال بعنوان مع راندي باوش في محاضرته الأخيرة في صحيفة الرياض – العدد 14685 – تاريخ 1429/9/7 هـ الموافق 2008/9/7 م

دخلت قبل أيام على مديري في مكتبه أثناء فترة عملي الصيفي في شركة بي بي إن الأمريكية، فوجدت على مكتبه كتابا بعنوان المحاضرة الأخيرة The Last Lecture لمؤلفه راندي باوش Randy Pausch أستاذ علوم الحاسب بجامعة كارنيجي ميلون، ففطن لانتباهي للكتاب وذكر لي أن حماته نصحته بقراءة الكتاب، وسألني إن كنتُ أعرف المؤلف، فابتسمتُ وقلت له أنسيتَ أني أدرس في نفس الجامعة التي كان يعمل بها؟ ثم أضفت أني حضرتُ المحاضرة الأخيرة، فبدت علامات الدهشة على وجهه وقال إنه سيخبر حماته وأنها ستكون أيضا في غاية الانبهار!

فما سبب دهشة مديري وحماته؟ وما قصة الدكتور راندي باوش الذي عدَّتْه مجلة تايم مؤخرا من ضمن أكثر مائة شخصية مؤثرة في العالم؟ وما قصة محاضرته وكتابه والذي ترجم لأكثر من ثلاثين لغة وحقق أعلى المبيعات؟

القصة بدأت يوم الثلاثاء 1892007 م عندما بدأت الجامعة سلسلة محاضرات بعنوان “رحلات”، يذكر فيها أساتذة الجامعة تجربتهم الشخصية ورحلتهم في النجاح، لكن محاضرة ذلك اليوم بعنوان “حقِّق أحلام طفولتك” كانت من نوع آخر، فأكثر من شخص امتدح المتحدث وحث على الحضور. حتى أن المشرف على بحثي أرسل لطلبته رسالة قبل أكثر من أسبوع يحثهم على الحضور المبكر، وأضاف عبارة لم نفهما وقتها إذ أشار أن محاضرته ستكون بمثابة “المحاضرة الأخيرة”.

وفي صباح يوم المحاضرة فهمتُ ماذا قصد؟، إذ علمتُ أن المتحدث تم تشخيصه بسرطان البنكرياس للمرة الثانية الشهر الماضي، بعدما تعافى من إصابته السابقة قبل فترة بسيطة، ولكن هذه المرة ذكر له الأطباء أنه لا علاج له وأنه لم يتبقَ في حياته إلا ثلاثة إلى ستة أشهر، فكانت هذه المحاضرة بمثابة المحاضرة الأخيرة له في حياته.

عندها زرتُ موقع باوش للتعرف على الشخص، فاتضح لي أنه أنهى الدكتوراة من جامعة كارنيجي ميلون نفسها عام 1988 ثم عمل في جامعة أخرى قبل أن يعود كأستاذ مشارك للجامعة في عام 1997، وقد قام مع أستاذ آخر في قسم الفنون والدراما بتأسيس مركز للتقنية الترفيهية يجمع بين تدريس علوم الحاسب والفنون ويعطي درجة الماجستير في ذلك، وقد تميز المركز بجودة خريجيه وافتتاح فروع له خارج أمريكا، حتى أن بعض الشركات كانت تقول للمركز أنهم سيوظفون خريجيه حتى قبل أن يتم قبولهم في البرنامج، كان من إنجازته أيضا مشروع “آليس” لتعليم الصغار لغات البرمجة، حيث يقوم برنامج المشروع بتعليم الأطفال برمجة الحاسب عن طريق أفلام وألعاب الكرتون، كما أنه عمل في شركة ديزني المعروفة وذلك لتصميم أحد الألعاب المتعلقة بالحاسب الآلي، هذا عدا غيرها من الإنجازات في مجال البحث والتدريس.

لم يكن الأستاذ الجامعي متقدما في العمر فقد كان عمره 47 عاما، وهو متزوج وأب لثلاثة أطفال كلهم كانوا دون الخامسة من العمر، في إعلان محاضرته والذي علق في ممرات الجامعة وضعت صورة له وهو يحمل أطفاله الثلاثة، أحدهم بيده اليمنى والآخر باليسرى والثالث فوق أكتافه، وذكر في وصف المحاضرة أن غالب الناس تكون لهم أحلام أثناء طفولتهم، ولكن للأسف غالب الناس لا يحققون أحلامهم، ثم أضاف أنه كان لديه عدد من الأحلام وأنه حققها، وأوضح أنه في محاضرته سيتحدث كيف يمكن للمرء أن يدير حياته حتى يحقق أحلامه.

طبعا لم أفوِّت مثل هذه الفرصة لحضور مثل هذه المحاضرة بل وطلبت من زوجتي أم ماجد أن تحضر معي وفعلا حضرت، وصلنا لمبنى القاعة وكان عدد الحضور مهولا والناس مصطفين في صف طويل جدا قبل بدء المحاضرة بأكثر من نصف ساعة لدخول القاعة، حتى أننا خشينا أن تمتلئ القاعة قبل دخولنا لها، ولكننا استطعنا الدخول وجلسنا في مقعدين في آخر المدرج.

تحدث باوش عن أحلام طفولته وبين كيف استطاع تحقيقها، وتذكَّرت عددا من الأقوال الجميلة أقتطف لكم بعضا منها:

– لا تتضايق من توجيه الناس لك، لأنك عندما لا تتقن العمل ولا يوجد من يوجِّهك فهذا يعني أنهم فقدوا الأمل فيك.

– العقبات التي تواجهها في طريقك ليست لإيقافك … ولكن لتثبت جديتك في رغبتك بالوصول، فهذه العقبات وضعت لمنع من لا يملك الجدية الكافية للوصول … ولا يمنع أن تكون بعض العقبات مصنوعة من لحم ودم.

– إذا كنت غاضبا من شخص ما … فالسبب أنك لم تعطه الوقت الكافي لتعرف من هو … فقط أعطه بعض الوقت … وسوف يبهرك في كثير من الأحيان.

– عمل المرء في مجال التدريس يتيح لك فرصة المساهمة في تحقيق أحلام طفولة الآخرين.

تحدث عن إحدى المواد التي أسَّسها في الجامعة وعن مشاريع الطلبة فيها، وكيف أنه رغم أنه لم يكن هناك إلا 50 طالب في المادة، إلا أنه في اليوم الأخير لعرض المشاريع حضر 95 شخص، كثير منهم كانوا آباء الطلبة!

تحدث عن أبيه وأمه، وعن فضلهما وأثرهما عليه، وكيف أنهما سمحا له وهو صغير بأن يدهن جدارن غرفته … ثم ألقى نصيحة للآباء والأمهات إذ قال: إذا أراد أبناؤكم أن يدهنوا جدرانهم … فلا تمنعوهم … من أجلي لا تمنعوهم … ولا تقلقوا بشأن انخفاض قيمة المنزل.

تحدث عن مشرفه الدراسي في مرحلة البكالريوس وقد كان موجودا بين الحضور، وكيف أنه نصحه ذات مرة وقال له: من المؤسف يا راندي أن الناس يعتبرونك مغرورا … لأن ذلك سيحدُّ مما يمكنك إنجازه في المستقبل … ثم علَّق كيف أن مشرفه استطاع بطريقة غير مباشرة ورائعة أن يخبره أنه مغرور وكيف أنه هو المتضرر من ذلك.

مما قال أيضا: اصدق مع الناس … تأسف إذا أخطأت … أقر بالفضل لأهله … لا تتذمر ولكن اعمل بجد واجتهاد.

مما أدهشني في المحاضرة نفسيته المذهلة، وكيف أنه بدأ المحاضرة بالإشارة إلى أنه حاليا في وضع صحي ممتاز من خلال عمل تمارين الضغط باليدين، ثم إشارته إلى أنه لا يملك اختيار القَدَر ولكنه يملك كيفية التعامل معه، وعبر عن ذلك بقوله لا نستطيع تغيير الأوراق التي تعطى لنا، نستطيع فقط تحديد طريقة اللعب بها، هذا عدا إخلاصه وجهده في إعداد وإلقاء المحاضرة، والدروس التي تعلمها في حياته، وإظهاره لتقديره لزوجته، وخاتمته المؤثرة بخصوص أطفاله الثلاثة، وفوق هذا مرحه أثناء هذه الفترة الحرجة.

مما استوقفني كذلك بعض ما عكسته لي المحاضرة حول شرائح من المجتمع الأمريكي أظن أن كثيرا من الطلبة لم يكن يعتقد بوجودها عندما جاء لهذه البلاد، فمثلا الصورة التي لدى كثير من الطلبة عند مجيئه لأمريكا وحتى بعد بقائه فيه لسنوات أن الشعب الأمريكي مادي ولا يوجد لديه مشاعر الحنان أو العطف أو الاهتمام بالأسرة، وهذه السلوكيات المادية نعم موجودة، لكن لدى شريحة من الشعب وليس كامله، فهناك من الأمريكيين من تكون الأسرة هي همُّه الأول، ومشاعر الصداقة لديه عالية، والبعد عن المادية والإخلاص في العمل من أجل نفع الآخرين ديدنه، غالب هذه الملاحظات تجلَّت وتأكَّدت لي من خلال الكلمات التي ألقاها معارف باوش قبل وبعد المحاضرة، ومن خلال المحاضرة نفسها.

بعد إلقاء المحاضرة طارت الركبان بها، فقد استضيف باوش من قبل مقدمي برامج مشهورين عالميا مثل أوبرا وديان سوير، حتى أن مدير الجامعة في محاضرة لاحقة له في الفصل الثاني ذكر أنه خلال زيارته للهند سأله من قابلهم عن هذه المحاضرة وعن صحة باوش، وحسب التقديرات فإن عدد من شاهد المحاضرة في أنحاء العالم عبر الإنترنت هو عشرة ملايين!

الدكتور راندي باوش عاش لأكثر من 6 أشهر بعد تشخيصه بالسرطان، وخلال كل هذه الفترة رضى بقدره وتعامل معه بواقعية وبروح معنوية عالية وحرص على الاستمرار في البذل والعطاء بشكل عام ولأفراد أسرته بشكل خاص، ووفاء وتقديرا له استضافته جامعته في حفل الخريجيين قبل شهرين مع نائب الرئيس الأمريكي السابق آل جور لإلقاء كلمة للخريجين، كانت كلمة قصيرة ولكنها مليئة بالوقفات، كان مما قال:

– أن المرء ليس بعدد السنين التي يحياها إنما بما يعمل …

– الشخص عند وفاته لن يندم على ما قام به ولكن على ما لم يقم به …

– على كل واحد فينا أن يبحث عن أمر يهواه مهما طالت مدة البحث بدلا من انتظار الأجل …

– وأوضح إنك لن تجد ما تهواه بامتلاك الأمور المادية أو المال إذ سيكون هناك دائما من يمتلك أكثر منك …

– وأضاف أن ما يمد هواك بالوقود يجب أن يأتي من داخلك …

– وأكد على أهمية ارتباط هواك بالناس وبعلاقاتك معهم …

– وختم كيف أن زوجته كانت هواه في حياته …

هذه هي قصة المحاضرة الأخيرة …

عودة لمكتب مديري في العمل …

دخل علينا موظف آخر يعمل معنا ولاحظ حديثنا عن كتاب باوش، فعرفه وذكر أنهما كانا يلعبان كرة السلة معا عندما كان طالبا وذكره بخير، ثم أضاف أن أعز أصدقائه أصيب أيضا بسرطان البنكرياس وتوفي قبل سنوات بسيطة، الملفت في الأمر أن هذا الموظف يلبس في يده سوار مطاطي أصفر اعتاد على لبسه عدد من الأمريكيين للتوعية بأمراض السرطان ولإبداء تعاطفهم مع المصابين، ورغم أن هذه العادة خفتت بشكل كبير في أمريكا، إلا أن صاحبنا ما زال يلبس هذا السوار المطاطي في يده اليمنى وفاء لصديقه الذي مات.

بعد هذه الحادثة في مكتب مديري بأيام وصلني عبر البريد الإلكتروني رسالة أرسلها مدير جامعة كارنيجي ميلون لمنسوبيها صباح يوم الجمعة 2008/7/25 م ينعي فيها الدكتور راندي باوش ويذكر إنجازاته وأثره على الجامعة قبل وبعد مرضه، وكيف أنه علمنا كيف نعيش ونواجه أكبر التحديات. تساءلتُ عندها كم من أساتذتنا الجامعيين سيصل لما وصل لها راندي باوش من تأثير؟ وتسائلت أيضا كم من معارف باوش سيلبس سوار مطاطيا وفاء له؟

روابط متعلقة بالدكتور راندي باوش

اليومية القادمة: قصر الإمارات وماتلاب