طلاب جامعة كارنيجي ميلون .. أبطال العالم!

أواصل الحديث عما تحدثت عنه مانويلا فيلوسو الأستاذة في كلية علوم الحاسب بجامعة كارنيجي ميلون عن إنجازات فريق جامعة كارنيجي ميلون في بطولات كأس العالم لكرة القدم للروبوت، والتي تعرف باللغة الإنجليزية بـ Robot Soccer World Cup أو اختصاراً Robocup. فما هي هذه البطولة؟ [1]

هي بطولة سنوية عالمية بدأت في التسعينيات الميلادية، تشارك فيها جامعات مختلفة بتصميم روبوتات لتلعب لعبة كرة القدم ضد البعض، والهدف من البطولة هو تنمية البحث والتعليم. وتتكون البطولة من عدة مستويات بناء على حجم الروبوت، وتهدف البطولة مع حلول عام 2050م -حسب ما هو مذكور في موقع البطولة- إلى تصميم وتصنيع فريق كامل من الروبوت المتكامل الشبيه بالإنسان بحيث يلعب مباراة أمام بطل كأس العالم حسب قوانين الفيفا، ليس هذا فحسب بل يفوز في تلك المباراة! يبدو هدف خيالي ومجنون خاصة فيما يتعلق بهزيمة بطل كأس العالم. ربما يستطيع الفريق هزيمة بطل كأس آسيا في تلك السنة .. من يدري؟

عودة لحديث مانويلا، تحدثت وكأنها معلق رياضي لا أستاذة جامعية خاصة عندما تعرض أهداف الفريق، وبعد كل هدف تقول بوووم، وبدأت تتحدث عن فريق جامعتي واسمه CMDrangons تنينات كارنيجي ميلون [2]، والذي يتكون من أساتذة وطلبة من قسم الروبوتات في كلية علوم الحاسب. وكيف أننا أبطال العالم خلال عامي 2006 و2007م في بطولة الروبوتات الصغيرة الحجم. وأرتنا بعض اللقطات. وبدأت تشرح كيف أنه خلال البطولة في عام 2006م برمجموا الروبوت بحيث إذا واجه حائط صد أمامه عند تسديد الكرة، يمررها إلى زميله الروبوت الآخر .. وبوووم يسجل هدف! ثم شرحت أن هذا التكتيك أصبح مستخدماً من الفرق الأخرى في البطولة التي تلتها وذلك أن الهدف من البطولة ليس التنافس بقدر ما هو التعلم، ولذا فإن كل ما يقوم به الفريق من تصميمات وما يكتب من برامج ينشر للآخرين . ثم شرحت أنه في بطولة 2007م برمجوا الروبوت بحيث يرجع للوراء حتى يستلم الكرة المناولة له من قبل زميله الروبوت الآخر، وقالت أنه في تلك البطولة وأثناء مباراتهم النهائية انتهى الوقت الأصلي بالتعادل أمام فريق من جامعة في تايلاند، ولجؤوا لركلات الترجيح، وفاز فريق التنينات عن جدارة واستحقاق. ثم واصلت حديثها وكيف أن غالب الفرق عندما تعرض لقطات فيديو لمبارياتها تحتاج إلى تسريع التشغيل تجنباً لملل المشاهد، بينما في مباريات فريقنا فيحتاجون إلى إبطاء التشغيل حتى يستطيع المشاهد متابعة مجريات المباراة، فكم هو جميل أن يقولب التعليم والبحث العلمي بقالب تنافسي مرح.

بعدها ذكرت أن البطولة القادمة ستكون الشهر القادم (خلال عام 2008م) في الصين وأنها على الرغم من رغبتها بالحديث عن التكتيك الذي سيتبعه فريق التنينات إلا أنها لن تتحدث عنه. ولكني أخبركم أن فريق تنينات كارنيجي ميلون وصل للمبارة النهائية ولعب ضد نفس الفريق من تايلاند، وانتهى الوقت الأصلي كذلك بالتعادل، ولجؤوا مرة أخرى لركلات الترجيع ولكن خسر فريق التنينات هذه المرة ولكن بشرف! [3]

بعد انتهاء لقاء الخرجين خرجنا للعشاء، ثم ذهبنا لألجيرز كافيه وقضينا الليلة هناك، ولم أمل من ذلك المقهدى رغم أني قضيت فيه صباح ذلك اليوم مع مشرفي جوزيه.

[1] موقع Robocup: http://www.robocup.org
[2] موقع CMDrangons: http://www.cs.cmu.edu/~robosoccer/small
[3] يمكن مشاهدة لقطات لمباريات الفريق في موقع اليوتيوب على هذه الروابط:

اليومية القادمة: لا يوجد .. فهذه آخر يومية في “يوميات باحث في مهد الإنترنت” والتي في طريقها الآن للنشر بإذن الله

وتبقى الصلة بعد التخرج

تحرص الجامعات الأمريكية على عدم انقطاع الصلة بينها وبين طلبتها الذين تخرجوا منها وذلك عن طريق توفير خدمات للذين تخرجوا من جامعاتها، وتتمحور هذه الخدمات حول بناء علاقات بين الطلبة السابقين أنفسهم من جهة وبينهم وبين الجامعة من جهة أخرى. هذه العلاقات تتيح للطلبة المتخرجين الاستفادة من بعضهم البعض في سوق العمل، وتفيد كذلك الطلبة الذين على وشك التخرج للحصول على وظيفة مناسبة لهم من خلال تواصلهم مع من سبقهم من الطلبة، كما أن الجامعة تستفيد من إبقاء علاقتها مع طلبتها السابقين من خلال التبرعات المادية أو العينية التي يقدمونها للجامعة أو من خلال الجانب الدعائي للجامعة إذا أصبح أحدهم من المشهورين إعلامياً أو سياسياً أو من البارزين في مجال تخصصهم.

أما عن كيفية بناء هذه العلاقات والمحافظة عليها، فتكون عن طريق إقامة الاحتفالات السنوية في مقر الجامعة والتي يدعى لها الخريجون، أو من خلال تنظيم المناسبات الاجتماعية في عدد من المدن المختلفة. ولأن بوسطن من المدن الكبيرة في الولايات المتحدة فإن جامعة كارنيجي ميلون تقيم فيها بشكل مستمر مناسبات اجتماعية لطلبتها السابقين، خاصة وأن بوسطن تحتضن الكثير من الشركات العاملة في مجال الأبحاث العلمية والتطبيقية إضافة لشركات أخرى تعمل في المجالات التقنية.

وقد حضرت أثناء فترة عملي في شركة بي بي إن مناسبتين اجتماعيتين، الأولى أقيمت في منزل أحد الخريجين والمطل على البحر، والملفت أن هذا الخريج تخرج من الجامعة قبل أن يولد غالب الحضور، إذ تخرج عام 1954م، وتخيلوا أنه ما زال لديه شعور الانتماء للجامعة. شخص آخر رأيته ذلك اليوم تخرج من الجامعة عام 1959م وهو عضو في مجلس أمناء فرع جامعة كارنيجي ميلون في قطر، أو شيء قريباً من ذلك (إذ لا أذكر)، وكان يلبس قميصاً مكتوب عليه اسم فرع الجامعة في قطر إضافة إلى عبارة مكتوبة باللغة العربية وهي “بالعمل ينبض قلبي”، وهي مقولة كان يقولها مؤسس الجامعة الأصلية في مدينة بتسبرغ رجل الأعمال أندرو كارنيجي، والمقولة باللغة الإنجليزية هي “My Heart is in the Work”.

أما المناسبة الثانية فقد كانت مخصصة لخريجي قسم هندسة الكهرباء والحاسب وخريجي كلية علوم الحاسب، وقد أقيمت هذه المناسبة في الدور العلوي في متحف العلوم في بوسطن، وذلك في قاعة تطل على منظر جميل وخلاب، إذ كنا نرى معالم مدينتي بوسطن وكامبريدج ونهر تشارلز الذي يفصل بينهما. وهي نفس القاعة التي أقيمت فيه نفس المناسبة في العام الذي قبله، والتي حضرتها كذلك عندما كنت أعمل في شركة سيسكو على بعد ساعة شمال بوسطن.

وقد حضر معي لهذه المناسبة في متحف العلوم أخي ناصر والذي كان يزورني، إضافة إلى زميلي في القسم زياد البواب من لبنان والذي كان يعمل في الصيف في مركز الأبحاث التابع لشركة ميتسوبيشي وزميلنا السابق في القسم عمار السيد من السودان والذي يعمل في شركة ماث وركز [1]. كما كان من بين الحضور مشرفي على بحث الدكتوراة جوزيه مورا الأستاذ في قسم هندسة الكهرباء والحاسب وزوجته مانويلا فيلوسو الأستاذة في كلية علوم الحاسب. وقد تحدث جوزيه في الاجتماع عن الجامعة وعن علاقاتها بمؤسسات وجامعات في بلدان أخرى مثل قطر واليونان والبرتغال واليابان. هذا التوسع من الجامعة في علاقاتها خارج الولايات المتحدة على الرغم من أنها أكثر تميزاً من الناحية العلمية والبحثية من المؤسسات والجامعات في تلك الدول يبرز أهمية ألا تعزل جامعة نفسها عن باقي العالم خاصة وإن كانت تعقد العلاقات مع من هو أكثر تميزاً منها.

ثم تحدثت بعده زوجته مانويلا وكان حديثها عن أمرين، الأول عن مبنى مركز جيتس (نسبة لبيل جيتس وزوجته ميلندا) الذي يبنى حالياً في الجامعة [2] وذلك لأنها أحد المشرفين على المشروع، وسبب تسمية المبنى على جيتس (مؤسس ورئيس مجلس إدارة شركة مايكروسوفت) راجع لسبب بسيط وهو أن مؤسسته هو وزوجته الخيرية تبرعت بمبلغ 20 مليون دولار لبناء المبنى. وتجدر الإشارة إلى أن تبرع الأثرياء ورجال الأعمال الأمريكيين بمبالغ ضخمة جداً على هذا النحو أمر طبيعي، إذ خلال فترة تواجدي في الولايات المتحدة سمعت عن ثلاث حالات مماثلة في جامعات مختلفة، أحدها في جامعتي إذ تبرع رجل الأعمال ديفيد تيببر بمبلغ 55 مليون دولار لكلية إدارة الأعمال شريطة أن تسمية الكلية باسمه، وقد حثه على التبرع أستاذه السابق بالكلية والذي أصبح عميدها فيما بعد بهذا التبرع [3]. كما أني قرأت في خبر أن الأمريكيين أكثر تبرعاً بأموالهم من الأوروبين، وسمعت أنهم لا ينظرون بكثير من التقدير لأصحاب الثروات إذا كان مصدر ثروتهم ما ورثوه عن والديهم، وذلك لأنهم يعززون من قيمة استقلال الفرد وبناء نفسه بنفسه، بما في ذلك أن يحصل على ثروته بنفسه، ومثال واضح لذلك هو حرص الفتى أو الفتاة حال تخرجه من المدرسة على السكن وحده خارج بيت والديه. قد يستغرب المرء العربي هذه الاستقلالية لدى الأمريكيين في بعض الأحيان، إذ نحن نعزز من أهمية الترابط بين أفراد الأسرة، والابن فضلاً عن البنت يستمر في السكن مع والديه إلى أن يتزوج أو يغادر مدينة والديه للدراسة أو العمل، هذا إذا لم يستمر في السكن مع والديه بعد زواجه. ولست هنا أفضل قيم الأمريكيين على قيم العرب، إنما أقارن بينهم فحسب، وأعتقد أن خير الأمور الوسط بحيث لا نغلب قيمة على أخرى فتطغى عليها.

أما الأمر الثاني الذي تحدثت عنه مانويلا فهو عن إنجازات فريق جامعة كارنيجي ميلون في بطولات كأس العالم لكرة القدم للروبوت. فما هي هذه البطولة؟ وما قصة جامعتي معها؟ سيكون هذا حديثنا في اليومية القادمة ..

[1] سبق الحديث عن شركة ماث وركز في يومية فنادق الإمارات وشركة MathWorks.
[2] تم افتتاح المبنى لاحقاً بتاريخ 22/9/2009م.
[3] بعد انتهائي من الدراسة وعودتي لجامعة الملك سعود قام رجل أعمال آخر بالتبرع لجامعة كارنيجي ميلون بمبلغ فلكي وذلك في شهر سبتمبر من عام 2011م، حيث قام بيل ديتريتش بالتبرع بملبغ 265 مليون دولار للجامعة! ويعد هذا أكبر تبرع حصلت عليه الجامعة في تاريخها ومن أكبر عشر تبرعات قام به فرد لجامعة أمريكية خاصة. وقد قامت الجامعة كتقدير له بتسمية كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية باسم والدته. ثم قام ديتريتش في نفس الشهر من ذلك العام بالتبرع بمبلغ 125 مليون دولار لجامعة بتسبرغ، وتقديراً لذلك قامت الجامعة بتسمية كلية الآداب والعلوم باسم والده. وبعدها قام بالتبرع بعدد من الملايين لعدة جامعات ومؤسسات في مدينة بتسبرغ بلغ مجموع تبرعاته 85.6 مليون دولار ودفعت لإحدى عشر جامعة ومؤسسة. الملفت في الأمر أن المتبرع توفي بعد أقل من شهر من تبرعه الأول. وقد بلغ مجموع تبرعاته قرابة النصف مليار دولار وبهذا يكون مثالاً نادراً لرجال أعمال سخي وبار بوالديه يجدر بكثير من رجال الأعمال في المنطقة العربية أن يحذوا حذوه.

 

اليومية القادمة: طلاب جامعة كارنيجي ميلون .. أبطال العالم!

مشرفي وعلاقته بكامبريدج والقهوة العربية

كانت اليومية السابقة آخر يومية لي في الشركة، وستكون اليوميات المتبقية حول جامعة كارنيجي ميلون ولكن في نفس الوقت خلال الفترة التي قضيتها في بوسطن.

سأتحدث اليوم عن مشرفي لبحث الدكتوراة في الجامعة وعلاقته هو وعائلته العلمية بمدينة كامبريدج Cambridge. فهو يكثر التردد على كامبريدج، ومن أسباب ذلك أنه وقتها كان ابنه الأصغر يدرس في جامعة هارفارد في تخصص الفلسفة، وكان ابنه الأكبر يدرس ماجستير إدارة الأعمال (MBA) في جامعة هارفارد أيضا وسبق له الدراسة في نفس الجامعة والتخرج منها قبل سنوات من قسم علوم الحاسب. وفوق هذا فمشرفي نفسه أنهى الدكتوراة عام 1975 م من معهد ماسيتشيوسيس للتقنية بمدينة كامبريدج. وسبق له ولزوجته قبل سنة وأن طلبا تفرغ علمي لمدة سنة من الجامعة للعمل في كامبريدج. وزوجته بالمناسبة دكتورة أيضا في نفس الجامعة (جامعة كارنيجي ميلون) ولكن في كلية علوم الحاسب. وقد عمل في سنة التفرغ في معهد ماسيتشيوسيس للتقنية، وعملت زوجته في جامعة هارفارد. إضافة إلى ذلك فإن زوجته لها اتصال بشركة بي بي إن التي كنت أعمل فيها، إذ أن أحد أبحاثها له علاقة بعمل الشركة.

هذا عن علاقة هذه العائلة بمدينة كامبريدج، ولكن ماذا عن مشرفي نفسه ..

أما عن اسمه فهو جوزيه مورا José Moura وأما عن بلده فهو برتغالي الأصل. وإضافة لعمله كأستاذ في قسم هندسة الكهرباء والحاسب فكان وقتها رئيس الجمعية الفرعية لتحليل الإشارات بجمعية مهندسي الكهرياء والإلكترونيات IEEE لدورة عامي 2008 و 2009 م، وهو منصب تطوعي كبير يجعل منه شخصية معروفة لأساتذة الجامعات والباحثين في هذه المجال. والجميل في جوزيه هو تواضعه رغم كبر سنه ومنصبه وخبرته، ومن ذلك أنه يطلب منا نحن طلبته مناداته باسمه الأول جوزيه. والأمر الآخر الجميل في جوزيه هو رغم أنه يعمل في الجامعة منذ أكثر من 20 سنة إلا أنه دائم التواصل مع بلده الأم البرتغال ويزورها سنويا على الأقل لمدة أسبوعين هو وزوجته مانويلا فيلوسو Manuela Veloso، والتي بالمناسبة كانت أحد طلبته في مرحلة الماجستير عندما كان يدرّس في إحدى الجامعات في البرتغال.

ومن تعلقه ببلده أنه يدير برنامج مشترك بين الجامعة وحكومة البرتغال بميزانية قدرها 100 مليون دولار بهدف التعاون المشترك في مجالي التعليم والبحث مع 12 جامعة برتغالية. البرنامج يوفر منح دراسة كاملة للطلبة البرتغاليين المتميزيين في مرحلتي الماجستير والدكتوارة ويقدم برنامج دراسة مشترك بين جامعة كارنيجي ميلون وعدد من جامعات البرتغال.

أثناء عملي في شركة بي بي إن، وفي الصيف الذي قبله أثناء عملي في شركة سيسكو في ولاية نيو هامشير والتي كانت تقع على بعد ساعة من كامبريدج، كنت على تواصل مع جوزيه بخصوص بحثي وذلك عن طريق اللقاءات الشخصية. وكان جوزيه في العام الماضي وفي كل مرة نلتقي فيها يصف لي مقهي أو مكان معين في مدينة كامبريدج لنتقابل به، أما هذه السنة فقد اختار مكانا مناسبا وصرنا نلتقي فيه كل مرة، وكان اللقاء الأول في إجازة نهاية الأسبوع وتحديدا صباح يوم السبت. وكان اسم المقهى Café Algiers كافيه ألجيرز بالقرب من جامعة هارفارد، و Algier هو الاسم الفرنسي للجزائر، فالمقهى عربي وصاحبه فلسطيني.

ما يعجب جوزيه في هذا المقهى هو قهوته العربية، مع ملاحظة أنها ليست مثل القهوة السعودية ولكنها ما نسميها في السعودية بالقهوة التركية، وهي منتشرة في البلدان العربية الأخرى. أما ما يعجبني في المقهى فهو تصميمه، فهو يذكرني بتصميم المقاهي التي كنت أراها في بعض المسلسلات المصرية عندما كنت صغيرا. المقهى عبارة عن دورين، الطاولات التي فيه صغيرة متقاربة، الأثاث كله بما في ذلك الطاولات والكراسي والمصابيح والجدران ذات طراز عربي شعبي، المشروبات الساخنة العربية على قائمة الطعام متنوعة، ربما الشيء الوحيد الذي ينقص المكان لعبة الطاولة التي كان يلعبها مرتادو المقاهي في المسلسلات المصرية. ومن شدة إعجابي بالمكان زرته بعدها خلال فترة عملي في كامبريدج ثلاث مرات، أولاها كانت في نفس الليلة مع اثنين من الأصحاب.

بعد انتهائنا من الحديث عن بحثي وعلاقته بالبحث الذي أقوم به في الشركة، قلت له سأراك بعد قليل في لقاء الخريجين في متحف العلوم.

فما هو لقاء الخريجين؟ سيكون هذا حديثنا في اليومية القادمة ..

اليومية القادمة: وتبقى الصلة بعد التخرج

عندما يضيق بك بلدك ويتسع لك غيره من البلدان!

نشر أصل هذه اليومية كمقال بعنوان نظام الإقامة يصعّب على الأساتذة العرب العمل في السعودية في صحيفة الوطن السعودية – العدد 2905 – تاريخ 1429/9/12 هـ الموافق لـ 2008/9/12 م

أتحدث عن أستاذ جامعي استضافته الشركة من إحدى الجامعات الأمريكية لإلقاء محاضرة عن أبحاثه في مجال أمن الشبكات، والتي تفاعل معها الباحثون والباحثات في الشركة قبل بدايتها بالحضور، وأثناءها بمتابعتها، وبعدها من خلال الأسئلة التي انهالت عليه.

ما لفت نظري في الأستاذ الجامعي ليس منصبه الوظيفي، أو حبه لما يقوم به، أو المواضيع العلمية التي تطرق لها، وإن كانت هذه كلها مما يلفت النظر، ولكن ما لفت نظر شخص مثلي أن الأستاذ الجامعي ولد ونشأ وترعرع في مدينتي.. الرياض، بل إن والديه ما زالا يقيمان هناك. كما أنه أنهى دراسته الجامعية في جامعة الملك فهد للبترول والمعادن بمدينة الظهران في مجال هندسة الحاسب، وعمل بضع سنوات في إحدى الشركات الخاصة في الرياض.

فما الذي إذاً جعل هذا الأستاذ سعودي الولادة والنشأة والثقافة واللهجة والانتماء، بل وسعودي الاسم والهيئة يقضي سنواته العشر الأخيرة في أمريكا بعد إنهائه لدراسة درجتي الماجستير والدكتوراة في مجال علوم الحاسب؟

الجواب ببساطة أنه ليس سعودي الجنسية!

فالأخ ممن هاجر والداه وباقي أفراد عائلته من قطاع غزة إلى الرياض وذلك في الستينيات الميلادية. ولكن لم يتيسر لوالديه أو أي أحد إخوته الحصول إلى الآن على الجنسية رغم هذه السنوات الطويلة.

تعرفت على صاحبنا أكثر من خلال دعوته لتناول طعام العشاء معي ذلك اليوم، ولبى دعوتي وخرجنا سوية لمطعم بحري مشهور في بوسطن واسمه ليجيل Legal، وبوسطن بالمناسبة مشهورة بالمأكولات البحرية.

الدكتور أكمل العقد الرابع من عمره حديثا ويعمل كأستاذ مشارك في قسم علوم الحاسب في جامعته، وتبين لي أنه يزور السعودية بصفة شبه سنوية، وغالب هذه الزيارات تكون لإلقاء دورات وورش عمل في جامعته التي تخرج منها (جامعة الملك فهد للبترول والمعادن) والتي يحضرها أحيانا أحد الدكاترة الذين درسوه في الجامعة عندما كان طالبا. كما أن من أسباب زيارته المتكررة للسعودية بطبيعة الحال هو زيارة والديه وأقاربه في الرياض.

تحدثت مع صاحبنا حول موضوعات متعددة، من ضمنها مجال بحثي في الشركة، والذي أبدى سعادته أن شخصا من منطقتنا العربية يبحث في مجال الحماية من شبكات الروبوت [1]. كما تحدثنا عن أبحاثه وبعض من طلبته، ثم عرجنا على المؤتمرات العلمية في مجال شبكات الحاسب وأمن المعلومات وذكر لي بعض المؤتمرات والتي نصحني بالحرص على النشر فيها، كما تبين لي أيضا أنه سيرأس إدارة أحد المؤتمرات العلمية في مجاله والذي سيقام السنة القادمة.

تحدثنا أيضا عن الحراك الذي تشهده جامعة الملك سعود في عهد مديرها الحالي الأستاذ الدكتور عبدالله العثمان، وعن نشأة وتأسيس جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية، واللتان لعلاقتي بهما أبديت اهتماما أكبر بما قاله. فقد تحدث عن وجهة نظره بخصوص سبل تفعيل البحث العلمي في جامعة الملك سعود، وكيف أنه من الصعب على الأساتذة الذين يعملون خارج السعودية ترك وظائفهم وحياتهم العلمية والعملية في أمريكا والعمل في جامعة الملك سعود، وذكر أن أحد الخيارات الأسهل وربما الأفضل في الفترة الحالية هو زيارة الأساتذة في الخارج لفصل أو سنة للجامعة وبدء البحث هناك ثم يستمر البحث من خلال التعاون والزيارات المتبادلة. وبخصوص جامعة الملك عبدالله للعلوم التقنية فقد أبدى حماسته لفكرة الجامعة وأشار أن أحد زملائه شاهد لها إعلانا في أحد المؤتمرات العلمية، وأضاف أن هذا يعكس حرص المسؤولين في الجامعة لاستقطاب الطلبة والأساتذة المتميزين.

فسألته لماذا لا يترك هو وظيفته في جامعته الحالية ويأتي للعمل في جامعة الملك سعود، خاصة وأنها تشهد حراكا لم تشهده من قبل وأن والديه مقيمان في الرياض. فقال أن الأمر غير متعلق بكون الراتب الذي سيأخذه أقل، فهو شخصيا مستعد للتنازل عن ذلك في مقابل خدمة وإفادة البلد، وليس الأمر متعلق بضعف البحث العلمي في الجامعة، وفهمت من حديثه أنه يعني أنه طالما أن الجامعة لديها الرغبة الصادقة في ذلك مع توفير الوسائل والإمكانيات اللازمة فإن لديه الاستعداد للمساهمة في رفع مستوى البحث العلمي.

ثم ذكر السبب في تردده في العمل في الجامعة. سبب تردده ليس لإدارة الجامعة حيلة فيه ..

السبب يرجع لنظام الإقامة والعمل لغير السعودي في السعودية، والذي يجعل الموظف حتى وإن كان أستاذا جامعيا مرتبطا بعقد سنوي وغير قادر حتى على تملك منزله [3]، ومقيد من ممارسة العمل التجاري.

ذكر لي وهو متأثر: هل يعقل أن أترك وظيفتي كأستاذ مشارك والتي لا أحد يستطيع أن يفصلني منها، وحياة كريمة هنا مع الجنسية (التي منحته إياها أمريكا ولم تمنحه إياها السعودية)، ثم أذهب إلى هناك؟ وما يزيد من تأثره في الموضوع هو أنه يعتبر السعودية بلده، وحتى من يقابله من الإخوة العرب لا يصدق في البداية أنه فلسطيني.

لم أناقشه في الموضوع ولم أملك حقيقة إلا تفهم وقبول رأيه.

ثم بين لي أن الجنسية ليست مطلبا في ذاتها، ولكنها هي الوسيلة الوحيدة للحصول على هذه الامتيازات، ووافقني أنه لو كان هناك في النظام السعودي ما يشبه بطاقة الإقامة الدائمة في أمريكا (أو ما يعرف بالجرين كارد) لحل الإشكال لديه، فهو يفهم الأبعاد السياسية لمنح الجنسيات، وأهم ما يريده هو وأمثاله أن يشعروا أن إقامتهم في السعودية دائمة كما لو أنها بلدهم، وأن تتوفر لهم كافة السبل العيش الكريم. وتذكروا أنه متردد بالعمل بالرغم من أنه ولد ونشأ وتربى ودرس في السعودية، فكيف بمن لم يكن كذلك، كيف يمكن لجامعاتنا استقطابه؟

ثم استمر في حديثه ومصارحته لي وكيف أن عمه والذي توفي قبل أشهر بسيطة رحمة الله عليه أسس وبنى مخبزا في حي الملز وذكر لي اسمه، وهذا المخبز معروف ومشهور في المنطقة خاصة في موسم شهر رمضان الفضيل، ورغم ذلك لم يحصل عمه على الجنسية، بل زاد فوق ذلك أنه سيزور السعودية الشهر القادم لأداء العمرة، وإشكاليته أنه يود زيارة والديه في الرياض ولكن تأشيرة العمرة لا تسمح له بزيارة الرياض، ورغم أنه رآهما قريبا إلا إن خاطره لا يطيب له أن يزور السعودية دون رؤيتهما، وذكر لي أن قد ينجح في استغفال موظف المطار إذا لبس الثوب والشماغ ليوهمه أن سعودي، أو يحاول سؤال مسؤول يستطيع مساعدته في تجاوز هذا الموضوع.

ولكنه رغم كل ما ذكر، فقد أبدى استعدادا للمجيء والعمل في الرياض، وهذا يشير لطيبة معدنه، ولكنه لا يريد ترك عمله الحالي وإلا هو متيقن من أن ظروف العمل في الجامعة التي سيعمل فيها ستوفر له الوقت والموارد التي يحتاجها لأداء أبحاثه بالشكل الذي يرضيه.

كان حديثي مع الدكتور ذا شجون، ولكننا اضطررنا للتوقف إذ كان يريد مراجعة ما أعده لمحاضرة أخرى سيلقيها في جامعة بوسطن غدا. وأوصلته بعدها للفندق وعدت إلى شقتي وأنا أفكر فيما سمعت ..

تعقيب: في اليوم التالي لنشر المقال في صحيفة الوطن اتصل بي معالي مدير جامعة الملك سعود أ.د. عبدالله العثمان من الرياض، وكنت وقتها ما زلت أدرس في بتسبرغ. تحدث معي الدكتور عبدالله في مكالمة مطولة عن اهتمامه باستقطاب العلماء المتميزين لجامعة الملك سعود وتسهيل إجراءات الحصول على التأشيرة وتلبية متطلباتهم البحثية، كما طلب مني معلومات الدكتور الذي تحدثت عنه في المقال حتى يتواصل مكتبه معه، وفعلا تم التواصل وزار الدكتور الرياض عدة مرات وانخرط في عدد المشاريع البحثية والأعمال المشتركة.

[1] سبق الحديث عن شبكات الروبوت في يوميتي شبكات الروبوت.

[2] أصبح بمقدور غير السعودي تملك عقار في السعودية بعد صدور نظام تملك غير السعوديين للعقار واستثماره عام 1421 هـ.

اليومية القادمة: مشرفي وعلاقته بكامبريدج والقهوة العربية

الدكاترة الجدد ضيقو الأفق

من هذا المتطاول على أصحاب الدال؟ وما يضرهم أنهم حصلوا على درجة الدكتوراة حديثا؟ وهل يزداد حجم الدال التي تسبق أسمائهم مع الزمن حتى يعابوا بأنهم جدد؟!

أما هذا المتطاول فيدعى الدكتور كرايج بارتريدج Craig Partridge وهو أحد الباحثين في شركة بي بي إن في مجال شبكات الحاسب والاتصالات، بل هو العالم الرئيسي في هذا المجال مَثله مَثل جان مخول في مجال تحليل الأصوات، إذ كلامها يحملان لقب Chief Scientist.

أنهى بارتريدج دراسته الجامعية من جامعة هارفارد في تخصص تاريخ القرون الوسطى (تخيلوا!)، وبعد ذلك حصل على درجتي الماجستير والدكتوارة من نفس الجامعة ولكن في تخصص علوم الحاسب. وقد كان بارتريدج ممن ساهم في بناء شبكة آربانت والتي كما أشرت سابقا هي نواة شبكة الإنترنت الحالية. من أبرز أعماله تصميم كيفية توجيه الرسائل الإلكترونية (رسائل الإيميل) إضافة إلى إسهاماته لتصميم وبناء أسرع موجه (راوتر Router) في أواسط التسعينات الميلادية [1].

فبعد هذا التقديم لهذا العَلم والباحث في الشركة، فهل يصح لي أن أعتبر ما قاله تطاولا على معاشر الدكاترة الجدد؟ خاصة وأنه قالها أمام مجموعة نصفها حاصلون على شهادة الدكتوراة.

لنكمل قصتنا حتى نعرف فيمن قيلت هذه المقولة وما المناسبة؟ وبعدها لنرى إن كانت صحيحة أم لا؟

أقامت الوحدة الإدارية التي أعمل بها خلال الأسبوع الثاني من عملي بالشركة محاضرة بعنوان: “كيف تحصل على دعم مادي من داربا؟” [2]. وكان كرايج بارتريدج المتحدث بحكم خبرته في هذا المجال. ومن ضمن ما ذكر في محاضرته أن داربا تعين مسؤولين عن توزيع أموال الدعم المادي ومتابعة المشاريع البحثية مع الجهات البحثية كالجامعات والشركات. ومن ضمن مسؤولياتهم تحديد المجالات البحثية التي تحتاج داربا للاستثمار فيها، وبعدها يعلن عن هذه المجالات ويتم طلب تقديم مقترحات بحثية من الجهات البحثية من خلال ما يعرف بـ (Request for Proposal – RPF)، بحيث يذكر الباحثون في هذا المقترحات  مدى اطلاعهم في الموضوع الذين يريدون البحث فيه، ويشيرون إلى بعض من أبحاثهم السابقة في هذا المجال إضافة لما ينوون القيام به لتقديم حلول للموضوع. كل يسعى للظفر بهذه “المناقصة” إن صح التعبير. وحيث أن ميزانية شركة بي بي إن تقوم بشكل أساسي منذ أيامها الأولى على الدعم المادي الذي يأتي من الحكومة الأمريكية وخاصة داربا، فعادة ما تكون فترة إنهاء تسليم المقترحات للحصول على دعم داربا أكثر توترا من فترة تسليم الأوراق العلمية للمؤتمرات.

بعدها تحدث بارتريدج عن أهمية بناء العلاقات مع هؤلاء الأشخاص المسؤولين عن الدعم المادي في داربا، حيث أن العلاقات الحسنة لها دور أساسي في كسب ثقتهم. وشرح ذلك بأن العلاقة والثقة الحسنة مع أحد هؤلاء المسؤولين ستيسر على الباحث في الشركة إقناعه بأهمية مجال بحثه لداربا، فبالتالي ستكون فرصته أكبر بالحصول على الدعم عند طلب المقترحات البحثية لأنه كان له دور في تشكيل موضوعها.

ثم تحدث كرايج عن طبيعة هؤلاء المسؤولين وأنهما نوعان إما موظفون قدماء في داربا عملوا في مجالات أخرى ثم تعينوا كمسؤولين عن توزيع الدعم المادلي ومتابعة المشاريع البحثية، أو أنهم دكاترة جدد تخرجو حديثا، وبعدها ذكر مقولته التي عنونت بها هذه اليومية “الدكاترة الجدد ضيقو الأفق”.

فها قد عرفتم عن المقولة الآن قائلها، وفي من قيلت، والمناسبة. فالسؤال الآن لماذا قال ذلك؟
وماذا عساه يقول عن طالب للدكتوراة مثلي في ذلك الوقت لم يسبق حرف الدال اسمه بعد؟

شرح بارتريدج مقولته وقال إن طالب الدكتوراة أول ما يتخرج يكون لديه معرفة كبيرة، ولكنها محدودة في مجال بسيط، وأشار بإبهامه وسبابته لصغر هذا المجال، وأضاف أن المتخرج حديثا من مرحلة الدكتوراة يحتاج لعدد من السنوات ليوسع مداركه البحثية وينضج أكثر كباحث. ويسند ما قاله باتريدج ما قيل في الأثر: العلم ثلاثة أشبار، من دخل في الشبر الأول تكبر، ومن دخل في الشبر الثاني تواضع، ومن دخل في الشبر الثالث علم أنه لا يعلم شيئا. هذه المقولة تنبه طلبة العلم سواء الشرعي أو التطبيقي -وطلبة الدكتوراة منهم- بألا يغتروا بسعة اطلاعهم وعلمهم، وذلك أن العلوم واسعة وهي كالبحر الذي لا ساحل له. فلعل مثل هذه المقولات تذكر الدكاترة الجدد، وحتى القدماء ممن هم مازالوا باقين على ما هم عليه منذ أن حصلوا على شهادة الدكتوراة، ناهيك عمن ما زال طالب لها، بإدراك أن رسالة البحث التي بموجبها سبقت الدال أسماءهم ما هي إلا قطرة من هذا البحر، وأن هذا القطرة مهما كانت كبيرة ستجف بمرور سنوات بسيطة، فطلب العلم عملية لا تنتهي، وأهم ما يتعلمه طالب الدكتوراة في دراسته هو آليات البحث نفسها، وكيفية التعلم الذاتي، وفوق هذا كله الكتابة العلمية الصارمة والتي يتحدث فيها الباحث بكل دقة وموضوعية، ويعبر عن بحثه بقدر ما يعلم، ناهيك عن أن ينسب لنفسه شيئا لم يقم به.

[1] يمكن قراءة المزيد عن كرايج بارتريدج من خلال هذا المقابلة: A Day in the Life of … Craig Partridge
[2] سبق الحديث عن داربا، وللتذكير فهي وكالة تتبع وزارة الدفاع الأمريكية وتقوم بدعم كثير من المشارع البحثية في الجامعات وغيرها بميزانية سنوية يبلغ متوسطها 3,2 مليار دولار.

اليومية القادمة: عندما يضيق بك بلدك ويتسع لك غيره من البلدان!

مع العالم التشيف مرة أخرى

صورة مع جان مخول في مقر شركة BBN

أثناء تدوين أحداث لقائي بجان مخول بحثت عن معلومات إضافية عنه على الإنترنت رغبة في التعرف عليه أكثر. فوقعت على مقابلة أجرتها معه مجلة تحليل الإشارات Signal Processing Magazine الصادرة عن جمعية مهندسي الكهرياء والإلكترونيات IEEE. كان عنوان المقابلة “فهم الكلام: مقابلة مع جان مخول” ونشرت في عدد المجلة الصادر في شهر مايو من عام 2005 م [1] .

أستعرض لكم بعض ما جاء في المقابلة. سأتطرق في البداية لاهتماماته البحثية، وبعدها أقتطف بعضا من نصائحه القيمة المتعلقة بالبحث والدراسة.

أما عن اهتماماته البحثية فهي تتمحور كلها حول تحليل الكلام، وهذا يشمل ترميز الكلمات والألفاظ إلى رموز رقمية، والتعرف على الكلام المنطوق وتحويله إلى كلام مكتوب، والتعرف على هوية المتكلم من خلال صوته، وتركيب وتجميع الكلمات لإنشاء جمل صوتية، وتحسين جودة الكلام المسجل، وتعديل الأصوات، وترجمة الكلام من لغة إلى أخرى، والتعرف على الأحرف المكتوبة.

ومن ضمن المشاريع التي يشرف عليها في الشركة تقليل أخطاء التعرف على الكلام المنطوق خلال المكالمات الهاتفية والبث التلفزيوني، وذلك في ثلاث لغات وهي العربية والإنجليزية والصينية. ومشروع آخر يشرف عليه هو ترجمة (ذات قدرات محدودة) من اللغة الإنجليزية إلى اللغتين العربية والإندونيسية والعكس. ويذكر في إجابته لأحد الأسئلة أن التعرف على الكلام المنطوق وتحويله إلى كلام مكتوب على صعوبته هو أسهل بكثير من ترجمة الكلام من لغة إلى أخرى. ويشرح السبب وراء ذلك أنه خلال التعرف على الكلام المنطوق وتحويله إلى كلام مكتوب، فإن المدخلات (الكلمات المنطوقة) والمخرجات (الكلمات المكتوبة) محددة بشكل جيد، فيمكن بالتالي استخدام نماذج رياضية لتمثيل المدخلات والمخرجات. بينما في الترجمة، فإن المدخلات (الكلمات) محددة بشكل جيد، ولكن المخرجات (ما يعنيه المتحدث بكلامه) غير محددة بشكل جيد لكثرة الاحتمالات الممكنة لما يعنيه الكلام. فهذا السبب يجعل من الترجمة عملية أكثر تعقيدا من التعرف على الكلام.

هذا بعض ما ذكره من اهتماماته البحثية في المقابلة، انتقل الآن إلى ذكر بعضا من نصائحه القيمة المتعلقة بالبحث والدراسة.

يذكر مخول في إحدى إجاباته أن الوظيفة الأساسية لطالب الدكتوارة هو أن يتعلم كيفية القيام بالبحث العلمي. وهذا يشمل تعلم كيفية التعامل مع موضوع البحث، قراءة ما كتب سابقا حول الموضوع، التحدث وأخذ النصح من أناس كثر، التخطيط والقيام بالتجارب أو بإثبات النظريات، ألا يصاب باليأس من كثرة المحاولات الفاشلة بل يستخدم هذه المحاولات ليثب إلى أفكار أفضل ومحاولات جديدة، وفوق هذا كله يتعلم كيف يبقي جانبا من المتعة في بحثه وألا يتخلى بسهولة عن أفكاره.

ويتحدث مخول عن نفسه في إجابة لسؤال آخر ويقول أن أفكاره وأبحاثه التي كتبها كانت نتيجة لقوة دفع ذاتية لديه لفهم الأشياء وشرحها. ويضيف أنه كان يستمتع باكتشاف خصائص رياضية معينة، أو طرح أسئلة على نفسه ثم يتحدى نفسه أن يجد لها حلولا. ويضرب في مقابلته أمثلة لأبحاث لا يوجد بينها وبين عمله في الشركة أدنى علاقة، ولكنه قام بهذه الأبحاث لأنها تلبي فضوله وللمتعة التي يجدها في ذلك. بل أضاف أنه كتب مرة ورقة علمية أثناء إجازة له لمدة شهر في الأرجنتين. فهل عرفتم الآن سر تميزه؟

وكان من ضمن الأسئلة التي طرحت عليه في المقابلة السؤال التالي: يقول الفليسوف والشاعر اللبناني جبران خليل:”الإيمان واحة بالقلب، لا يدرك أبدا بقافلة من التفكير” فهل كان لديك دائما إيمان بعملك وبقدراتك لحل المسائل البحثية؟ وهل كان لديك لحظات شك في حياتك (البحثية)؟

فكان مما أجاب به مخول: كان لدي دائما إيمان بأنه إذا أُعطيت لي الفرصة فإني سأستثمرها. ولكن مرت بي مرة أو مرتين لحظات شك عندما كنت طالبا في معهد ماسيتشيوسيس للتقنية، وشككت وقتها هل سأنهي دراستي أو لا؟ ويكمل إجابته ويذكر أنه كان يقول لنفسه أن أنهى درجة الماجستير، وهذا أمر ليس بالسيء لابن قرية مثله، مما جعله يرتاح ويعود لدراسته وعمله وبشكل أقوى.

لحظات الشك هذه في اعتقادي الشخصي أنه لم يسلم منها طالب دكتوراة في دراسته، خاصة عندما تنسد في وجهه نتائج بحثه، ولعل ما نقلته أعلاه من عدم اليأس من كثرة المحاولات الفاشلة واستحضار إنهاء درجة الماجستير يكون حافزا لطلبة الدكتوراة لإكمال دراستهم.

ولكن دعوني أشارككم بلحظة يأس مررت بها في دراستي لم أطلع عليها إلا النزر اليسير من المقربين إلي.

كانت في الأسبوع الأول من الدراسة ولكن خلال مرحلة البكالريوس في جامعة الملك سعود، فقد كان أستاذ الرياضيات من باكستان وأستاذ الفيزياء من تركيا، وكلاهما لا يتكلمان العربية، وبعدما اشتريت كتاب مقرر الرياضيات فإني دهشت بكبر حجمه وثقل وزنه حيث لم أرَ في حياتي كتابا أكبر حجما أو أثقل وزنا منه، ولكن ذلك لم يطل كثيرا فقد فاق كتاب مقرر الفيزياء أخاه حجما ووزنا.

عندها شككت في قدرتي على التخرج من كلية الهندسة، ولكني ما لبثت أن تفكرت في عشرات الدفعات التي تخرجت قبلي، فأنا لست أقل منهم شأنا، فكان هذا ما أعطاني الإيمان الكافي بقدراتي ولم أشك بعدها أبدا بقدرتي على التخرج من كلية الهندسة. ولكني لم أكتفِ بهذا الشعور فقط، فقد اتصلت على أحد أقربائي وأصدقائي، وكان قد بدأ الدراسة بالجامعة قبلي بسنتين ونقلت له شعوري، فما كان منه إلا أن شد من أزري وذكر لي بعض النصائح فيما يختص بموضوع الدراسة باللغة الإنجليزية، فجزاه الله كل خير ووفق أبنائه في حياتهم الدراسية والعملية.

[1] رابط المقابلة: http://ieeexplore.ieee.org/iel5/79/30801/01425901.pdf

اليومية القادمة: الدكاترة الجدد ضيقو الأفق

وجبة غداء مع عالم تشيف 3\3

أواصل حديثي عن الدكتور جان مخول …

لم أرد أن يقتصر حديثي مع عالم بهذه المكانة على الأكل والمطاعم اللبنانية، ورغبت بالاستفادة من هذا اللقاء ومعرفة كيف وصل شخص مثل مخول (عربي الولادة والنشأة والدراسة) إلى هذه المكانة العلمية المرموقة. وأسهل طريق إلى معرفة ذلك بطبيعة الحال هو سؤاله مباشرة.

فطرحت عليه السؤال التالي: دكتور جان كطالب دكتوارة شاب أرغب بالاستفادة من خبرتك كدكتور شاب (طبعا ابتسم لأني نسبته لسن الشباب) ثم أكملت سؤالي وقلت: أريد معرفة كيف وصلت إلى ما وصلت إليه؟

فأجاب بأنه بعدما حصل على درجة الدكتوراة من قسم الهندسة الكهربائية في معهد ماسيتشيوسيس للتقنية عام 1970 م في مجال تحليل الإشارات Signal Processing، عمل في شركة بي بي إن، وهناك بدأ بالبحث في موضوع معين في مجال تحليل الإشارات ونشر ورقة علمية من 4 صفحات في أحد المؤتمرات العلمية. وأكمل حديثه وذكر أن مديره وقتها اطلع على الورقة وقال له: إذا أمكن أن تتوسع قليلا في شرح ما ذكرت في الورقة حتى يسهل فهمها لشخص مثلي غير متخصص في مجال تحليل الإشارات.

فكانت هذه الحادثة بداية لبحث طويل لفهم الموضوع الذي بدأ العمل عليه، وبعد 6 أشهر من البحث والقراءة انتهى به الأمر بتقرير من 237 صفحة في هذه الموضوع! وبعدها وبناء على توصية من أحد الأساتذة الذين قرؤوا التقرير وُجهت له دعوة لكتابة ورقة مطولة عن الموضوع، ونشر هذه الورقة منفردا في إحدى المجلات العلمية المرموقة التابعة لجمعية مهندسي الكهرياء والإلكترونيات IEEE وذلك في عام 1975 م. فكانت هذه الورقة هي ما أعطاه المكانة العلمية في مجاله، وذلك بعد 5 سنوات فقط من تخرجه، وكان عمره وقتها 33 سنة. ثم واصل حديثه وشرح لي كيف أنه صرف كثيرا من وقته خارج أوقات الدوام خلال المساء وعطلة نهاية الأسبوع لإنهاء هذا البحث. ثم تكررت هذه التجربة مرة أخرى في موضوع علمي آخر، ونشر في نفس المجلة ورقة علمية أخرى من 38 صفحة بالتعاون مع باحثين آخرين عام 1985 م، وكانت هذه الورقة ككتاب مصغر في هذا المجال مما عزز من مكانته العملية.

وكان مخول خلال لقائي معه في أكثر من مرة يؤكد على أهمية العمل التطوعي مثل المشاركة في تنظيم المؤتمرات العلمية أو تحرير المجلات العلمية أو الانخراط في إدارة الجمعيات العلمية أو المشاركة في مجالس الأمناء الخاصة بها كعنصر مكمل مهم (وليس مستقل بذاته) لحياة المرء المهنية، وذلك حتى يحصل على تقدير أقرانه، وأضاف أن الأشخاص الوحيدين الذين يمكنهم الاستغناء عن العمل التطوعي والحصول على تقدير أقرانهم من غير العمل التطوعي هم الذين يملكون قدرا هائلا من التميز في مجالهم العملي والمهني وهم قليلون، ويبدو لي أن تواضع مخول يجعله لا يعد نفسه منهم، فبالرغم من مكانته العلمية العالية فقد شارك في كثير من الأعمال التطوعية.

ثم أسدى لي نصيحة بخصوص الأعمال التطوعية وهي الابتعاد عن الأعمال التي تتطلب قدرا كبيرا من الجهد، والتركيز على الأعمال ذات التأثير والتي تناسب اهتمامات المرء وميوله، وضرب مثال على ذلك أنه شارك مرة في اللجنة المنظمة لإحدى المؤتمرات التي أقيمت في بوسطن، ولكنه لم يرد أن يرأس المؤتمر لكثرة أعبائه والأعمال الإدارية التي على الرئيس متابعتها، ولكنه رأس الجانب العلمي (التقني) من المؤتمر، لأنه يناسب ميوله ويركز على الجوانب العلمية من المؤتمر.

بعدما سمعت ما قاله لي عن العمل التطوعي أحسست بأن كلامه ينطبق أيضا على طلبة الجامعات، فالجانب الأساسي هو الدراسة بطبيعة الحال، والأنشطة الطلابية عنصر مكمل مهم. فذكرت له أني كنت أشارك وقتها في عدة أنشطة في جامعتي وكان من ضمنها رئاسة نادي الطلبة السعوديين في بتسبرغ. فذكر لي انخراطه في منظمة الطلبة العرب عندما كان طالبا حتى أنه صار رئيسها وكيف كان لزملاء الدراسة وأنشطة المنظمة دور أساسي في زيادة وعيه السياسي [1]. وتحدث بعدها عن أهمية المشاركة في الأنشطة الطلابية أثناء فترة الدراسة لصقل شخصية الطالب، مع تشديده على أن الأمر الأهم هو الجانب الدراسي وأن الأنشطة الطلابية مكملة لهذا الجانب، وأن الاستغراق فيها وإهمال الجانب الدراسي لا يصب في مصلحة المرء.

بعد هذا الحديث الممتع والغداء الشهي كان علينا الانصراف والعودة للشركة، فركبنا السيارة وواصلنا الحديث أثناء عودتنا للشركة، ولعل أبرز ما ذكره لي أثناء عودتنا للشركة هو ضرورة العمل الجماعي في الشركة بشكل خاص وفي العمل البحثي بشكل عام، ولذلك فإن حسن التعامل مع الآخرين مهم جدا حتى يرغب الناس بالعمل معك، وإلا سيساهم هذا في فشل عملك في الشركة لعزوف الآخرين عن العمل معك، وأن الأشخاص الوحيدين الذين يمكنهم التعامل مع الناس كيفما أرادوا هم من بلغوا مكانة علمية عالية بحيث تجبر الآخرين على العمل معهم حتى لو لم يكن تعاملهم حسنا.

واستمررنا بالحديث حتى وصلنا للشركة … وشكرته عندها على دعوته وحسن مجالسته وعلى نصائحه القيمة.

[1] قامت منظمة الطلبة العرب في معهد ماسيتشيوسيس للتقنية في عام 2004 م برصد جزء من تاريخ المنظمة وطلبت شهادات الناشطين السابقين في المنظمة، وكان من ضمنهم جان مخول، ويمكن قراءة ما كتبه مخول على هذا الرابط http://web.mit.edu/arab/oldwww/History/makhoul_testimony.html، وكان من ضمن ما ذكره استضافتهم للكاتب والمفكر الأمريكي الشهير نعوم تشومسكي في أول محاضرة له عن الشرق الأوسط، وكان ذلك في بداية عام 1967 م!

اليومية القادمة: مع العالم التشيف مرة أخرى

وجبة غداء مع عالم تشيف 2\3

أواصل حديثي عن الدكتور جان مخول …

توجهت إلى مكتب الدكتور جان مخول في تمام الساعة الثانية عشرة، وعندما وصلت خرجنا مباشرة إلى سيارته، وقاد السيارة إلى شارع ماستشيوس (ويعرف أيضا بشارع ماس للاختصار) وهو الشارع الرئيسي في مدينة كامبريدج. وأوقف السيارة بجانب الرصيف ووضع بضعة قروش في عداد الموقف، وقطعنا الشارع ودخلنا المطعم اللبناني واسمه Café Barada كافيه بَرَدى [1].

المطعم صغير الحجم ويديره ويعمل فيه أفراد أسرة لبنانية، شأنه شأن كثير من المطاعم في أمريكيا التي تديرها الأسر من مختلف الجنسيات، والتي عادة ما تعرف بجودة طبخها، وبجوها الهادئ البسيط والقريب من جو البيت، وبزبائن يكثرون من التردد عليها. وقد أخبرني مخول أن الأسرة عادت قبل فترة بسيطة لمزاولة العمل في المطعم بعد قضاء أفرادها لإجازتهم السنوية. بعد دخولنا المطعم استقبلنا النادل وسأله مخول بلهجته اللبنانية “وين البابا؟” فذكّره الابن أن والده لا يعمل إلا خلال وقت العشاء، وأخذنا بعدها وأجلسنا على طاولة مطلة على الشارع وأحضر لنا قائمة الطعام.

وبعد اطلاع سريع عليها قال لي مخول أنه يعرف الأكل هنا جيدا واقترح علي أن ألا نطلب مشاوي ونطلب بدلها صحنين مقبلات وصحنين أساسيين ونتشارك فيها فوافقت. فطلب صحن مقبلات مشكلة والذي احتوى على حمص ومجدرة وتبولة وبابا غنوج، أما الصحن الآخر من المقبلات فكان ورق عنب. والصحنين الأساسيين كان الأول منها رز بالفاصوليا ولحم الخروف والآخر رز بالكوسى والجزر والفلفل وحب الحمص.

تحدث مخول في البداية عن حبه وارتياحه لهذا المطعم وعدم احتياجه للطبخ لتردده الدائم عليه سوار بتناول الطعام فيه أو أخذه للبيت. وأنه يعد هذا المطعم أفضل المطاعم اللبنانية في المدينة. فبدا لي واضحا حبه واعتزازه بالأكل اللبناني. ليس هذا فحسب فحبه واعتزازه ببلده لم يتوقف عند الأكل اللبناني، فهو يزور لبنان سنويا، وكان جل حديثه معي باللغة العربية، والاستثناء كان عندما تحدثنا في الجوانب التقنية من أابحاثه والتي عادة ما يكون الحديث عنها باللغة العربية أصعب في الفهم. وعرفت منه أنه لبناني الولادة والنشأة والدراسة بما في ذلك الدارسة الجامعية والتي أنهاها من الجامعة الأمريكية في بيروت عام 1964 م، وبعد ذلك جاء لمواصلة دراسة الماجستير والدكتوراة في أمريكا، وأنهى الدكتوراة من معهد ماسيتشيوسيس للتقنية عام 1970 م، وتوظف في نفس السنة في شركة بي بي إن، مما يعني أنه مضى على عمله في الشركة ذلك الوقت 38 عاما.

فوجدت نفسي بعدما عرفت مكانته العلمية وارتباطه القوي بلبنان رغم مرور أكثر من أربعة عقود على تركه للبنان أطرح عليه سؤالا … سألته: ألم تفكر طوال هذه السنين بالعودة للبنان (أو أي بلد عربي آخر) وإفادة البلد؟

فذكر عدة أسباب أبرزها الأزمات السياسية المتعاقبة على لبنان والتي لم تسمح باستقرار البلد، سبب آخر هو عدم وجود الثقافة البحثية أو المراكز البحثية في المنطقة التي تستفيد من قدراته، إضافة لطول مدة عمله في الشركة الحالية صنعت له مركزا مهنيا يصعب تركه والذهاب للعمل في شركة أخرى، فسألته ماذا عن العمل في الجامعات عندنا في المنطقة؟ فذكر أنه جرب التدريس أثناء عمله في الشركة بتدريسه لإحدى المواد في إحدى جامعات بوسطن ولكنه لم يجد نفسه في التدريس.

فانتهى به الحال أن يبقى في أمريكا شأنه شأن ألوف ممن أثناء دراستهم كانوا ينوون الرجوع لبلدانهم، ولكن ظروف بلدانهم سواء السياسة أو الاقتصادية أو الاجتماعية لم تشجعهم على الرجوع وإفادة البلد.

أكمل معكم عرض لقائي الشيق مع الدكتور جان مخول في اليومية القادمة …

[1] زرت موقع المطعم على الإنترنت وعرفت أن اسم المطعم مشتق من اسم قرية لبنانية تنتسب لها الأسرة التي تملك المطعم واسم القرية حوش بردى.

اليومية القادمة: وجبة غداء مع عالم تشيف 3\3

وجبة غداء مع عالم تشيف 1\3

جان مخول مع جائزة تحليل الإشارات والكلام التي حصل عليها في عام 2009 – المصدر: BBN Technologies site

 

قبل سفري لبوسطن للعمل في شركة بي بي إن تحدثت مع إثنين من زملائي في الجامعة وهما محمد فاورق من مصر وزياد البواب من لبنان، واللذان سبق للأول منهما العمل في الشركة وللثاني منهما التدرب الصيفي فيها، وذكرت لكل واحد منهما أني وقعت عقد التدرب الصيفي مع الشركة وأني سأبدأ العمل هناك مع بداية الصيف. فكان مما اشتركا به أثناء إسدائهما لنصائحهما لي هو الالتقاء بموظف هناك واسمه جان مخول.

فسألتهما من هو جان مخول؟ فقال كل واحد منهما أنه من لبنان وعالم في مجال تحليل الكلام Speech Processing، وأنه من الموظفين القدماء في الشركة. فقلت خيراً إن شاء الله.

عندما بدأت العمل في الشركة لم أسعَ للالتقاء به وتريثت قليلا حتى استقرت أموري في العمل، وعندها قررت الالتقاء بجان مخول، فاطلعت على دليل موظفي الشركة ووجدت اسمه وعرفت موقع مكتبه. وذهبت لزيارته في مكتبه والذي يقع في مبنى آخر بعيدا عن مكتبي، ولكني لم أجده، وتكرر هذا الأمر أكثر من مرة، وفي كل مرة يكون هو إما في اجتماع أو في مكان آخر من الشركة. وبين محاولات اللقاء به سمعت عنه من موظفين آخرين في الشركة. فتبين لي أنه يحمل لقب Chief Scientist بمعنى عالم قائد.

والحصول على هذا اللقب أمر في غاية الصعوبة ومن النادر أن يحصل أحد على هذا اللقب، إذ أنه مرت أكثر من عشر سنوات عندما حصل آخر موظف على هذا اللقب وذلك لما يتطلبه الحصول على هذا اللقب من أبحاث ونشاطات وتزكيات من داخل وخارج الشركة واجتماعات المسؤولين الكبار في الشركة لمنح المرشح هذا اللقب. ومما رأيت من تعامل الموظفين مع هؤلاء العلماء، فإن مكانة حامل هذا اللقب بالنسبة للشركة تفوق مكانة لقب الأستاذ (البروفوسور) بالنسبة للجامعة. ويكفي لمعرفة علو مكانة صاحب هذا اللقب أنه من بين موظفي الشركة والذي يتجاوز عددهم 700 موظف لا يوجد إلا خمسة موظفين فقط ممن يحملون هذا اللقب، مما يعطي جان مخول مكانة عالية جدا في الشركة.

مما عرفته عنه أيضا أنه فاز بجائزة تحليل الإشارات والكلام من جمعية مهندسي الكهرباء والإلكترونيات IEEE وذلك “لإسهاماته الريادية في نمذجة الأصوات”. وتعد هذه الجائزة أعلى جوائز الجمعية في مجال تحليل الكلام، وتسلم في مؤتمر الجمعية الدولي السنوي لتحليل السمعيات والكلام والإشارات ICASSP، ولأهمية الحدث أرسل مدير الشركة إيميلا لكافة موظفي الشركة بهذا الخصوص يهنئ فيه جان مخول على حصوله على الجائزة.

فزاد هذا الأمر من حرصي على الالتقاء به …

وزرته بعدها في مكتبه فوجدته. فسلمت عليه وعرف مباشرة أني عربي وسلم علي بالعربية، وبعد ثواني من التحدث معه عرف من لهجتي أنني سعودي. ورغم مكانة الرجل في الشركة وفي مجتمعه العلمي ورغم أنه بسن والدي، إلا أنه كان في غاية التواضع فقد وقف ورحب بي وسألني عن عملي وذكرت له أني هنا خلال فترة الصيف، فأثنى على ذلك وأبدى سروره. بعدها باركت له حصوله على الجائزة …. ثم أسعدني بدعوتي لطعام الغداء وذكر أنه يعرف مطعم لبناني قريب ممتاز، وسجل الموعد في جهازه، واعتذر عن مواصلة الحديث لارتباطه بعمل خارج الشركة، فشكرته وانصرفت.

أثناء حديثي معه لمحت كثرة الأوراق التي علقها على جدار مكتبه، ومن بين هذه الأوراق المعلقة لمحت ورقتين لا لشيء إلا لأنهما كتبتا باللغة العربية. أما الأولى فكتب عليها عبارة التهنئة المشهورة “كل عام وأنتم بخير”، والتي عرفت فيما بعد أن المسلمين وغيرهم في لبنان يستخدمونها للتهنئة. أما الورقة الثانية المعلقة فكانت مقولة اقتبسها من آية قرآنية كريمة تتردد على ألسنة الناس كمضرب المثل وهي قول الله تعالى {إن الله مع الصابرين}، ولكن الدكتور مخول أضاف على كلمات المثل كلمتين أخريين لتأكيد معنى الآية وهما “إذا صبروا”، فأصبحت العبارة “إن الله مع الصابرين إذا صبروا”.

أتحدث في اليوميتين القادمتين عما دار بيننا من حديث أثناء وجبة الغداء مع العالم التشيف، في اليومية الأولى أركز على جوانب من حياته الشخصية والجامعية، وفي الثانية أركز على جوانب من حياته المهنية والعلمية.

اليومية القادمة: وجبة غداء مع عالم تشيف 2\3

اجتماع كل الأيادي … أخذ زمام المبادرة عند الرئيس الأول للشركة


ليو بيرانيك – المصدر: LeoBeranek.com

بعدما انتهى رئيس الحالي لشركة بي بي إن من إجابة أسئلة الموظفين أشار بأن لدينا زائرا من نوع خاص. وقد كان هذا الزائر هو أول رئيس للشركة وآخر من تبقى من مؤسسيها على قيد الحياة وهو ليو بيرانيك Leo Beranek. وقد حضر بيرانيك لتوقيع نسخ من كتابه الذي صدر ذلك العام (2008)والذي يحكي فيه مذكرات حياته العلمية والعملية والشخصية. عنوان الكتاب هو ركوب الموجات Riding the Waves، ولكن أرى أنه كان بإمكانه تسمية كتابه بأخذ زمام المبادرة، إذ أن حياته كلها كانت كذلك.

يتطرق بيرانيك -والذي بلغ الأربعة وتسعين عاما وقتها!- في كتابه إلى حياته من نشأته في ولاية أيوا الريفية مرورا بدراسته للدكتوارة في جامعة هارفارد وعمله فيها ثم في معهد ماسيتشيوسيس للتقنية، ثم مشاركته في تأسيس الشركة، وماذا عمل بعد تركه للشركة، ولا يغفل بطبيعة الحال مؤلفاته وإنجازاته العلمية والعملية.

وسأستعرض هنا جزء بسيطا من حياة هذا العالم الفذ …

ولد بيرانيك عام 1914م، وحصل على شهادة البكالريوس من إحدى الكليات في ولايته أيوا في عام 1936 م، وحصل بعدها بأربع سنوات على شهادة الدكتوراة من جامعة هارفارد المعروفة. وأثناء فترة الحرب العالمية الثانية رأس مختبر الصوتيات الكهربائية في جامعة هارفارد، وقد ساهم المختبر في تصميم أنظمة الاتصالات العسكرية أثناء الحرب. بعدها انتقل للعمل في معهد ماسيتشيوسيس للتقنية كأستاذ في مجال هندسة الاتصالات بين عامي 1947 و1958م وكان وقتها المدير الفني لمختبر الصوتيات بالمعهد. أثناء عمله في معهد ماسيتشيوسيس للتقنية أسس هو وريتشارد بولت وتشارلز نيومين شركة بي بي إن عام 1948م كما أسلفت الذكر في بداية يومياتي. وفوق ذلك كان أول رئيس للشركة وذلك بين عامي 1952 و 1971 م، وخلال سنواته الأخيرة في الشركة أنشأ فريق في الشركة شبكة آربانت والتي كما أشرت سابقا هي نواة شبكة الإنترنت الحالية.

تخصص بيرانيك في تصميم صالات الأوبرا والفرق الموسيقية، حتى أنه زار أكثر من 100 صالة، وألف عدة مؤلفات في هذا المجال نشر آخرها يا سادة عندما أكمل العقد التاسع من عمره وذلك في عام 2004 م!

وقد حصل قبل نشره لهذا الكتاب بعام واحد على الوسام الوطني (الأمريكي) الرئاسي للعلوم، والذي قلده إياه الرئيس الأمريكي جورج بوش وذلك في عام 2003 م، ويعتبر هذا الوسام أعلى الجوائز العديدة التي حصل عليها في حياته العلمية والعملية.

ولم تتوقف نجاحات بيرانيك عند الجوانب العلمية، فبعد تركه لشركة بي بي إن اشترى إحدى محطات تلفزيون بوسطن المحلية وأدارها وأصبحت من أنجح قنوات أمريكا، وباعها عام 1982 م بأغلى الأثمان والذي لم تصل له قيمة أي محطة تلفزيونية في ذلك الوقت.

فهذا جانب من حياة رجل قضى ما يربو السبعين عاما في حياته العملية، وتسنى له تدوينها في مذكراته بعنوان ركوب الموجات، وكم هو جميل هذا العنوان! فهو يشير إلى مجاله العلمي في الصوتيات والموجات الكهربائية، ويشير كذلك إلى تأقلمه مع ما تحمله الحياة من موجات من خلال ركوبها بدلا من الغرق أمامها.

عودة لخطاب الرئيس الحالي للشركة، فبعد أن انتهى من خطابه، قمت متجها إلى الرئيس الأول للشركة في الطرف الآخر من القاعة حتى أحصل على توقعيه على النسخة التي اشتريتها من كتابه. أثناء توجهي إليه وانتظار دوري حتى يأتي، جلست أتفكر بالرجل الذي سأقابله، وكيف كأنني سأقابل شخصا من أولئك العلماء الذي خلدت كتب الرياضيات والفيزياء ذكرهم، أو أولئك الذي ما فتئ المسلسل الكرتوني “اسألوا لبيبة” والذي كنت أتابعه أيام طفولتي بالحديث عنهم [1]، وجلست أفكر هل أنا أقابل عالما جاءنا من الماضي، أم أنني عدت بآلة الزمن إلى الماضي لمقابلته. توقف تفكيري عندما جائني الدور وقابلت الرجل والذي كان على قدر عالي جدا من الصحة بالنسبة لمن هو في عمره. فذكرت له سعادتي بالالتقاء به وأعطيته الكتاب وكتب عليه بخط يده:

إلى: باسل

أطيب التمنيات

ليو بيرانيك

يوليو 23، 2008

وانصرفت مدركا أنني وإياه لسنا من الماضي …

[1] “اسألوا لبيبة” مسلسل كرتوني ياباني مدبلج إلى العربية كان يعرض على القناة الأولى في التلفزيون السعودي أثناء فترة الثمانينيات الميلادية. ولبيبة هذا عبارة عن كائن خيالي صغير الحجم يخرج من جهاز الكمبيوتر تشبه الإنسان في شكلها غير أن يديها هما طرفا شعرها واللتان تستخدمهما في الطيران. وفي كل حلقة تحكي لطفلين (أخ وأخته) سيرة أحد العلماء أو المكتشفين وأثره على الحياة. ولا أعلم أن المسلسل قد أعيد بثه بعد ذلك رغم القيمة العلمية التي يحملها بأسلوب مشوق.

اليومية القادمة: وجبة غداء مع عالم تشيف 1\3