أتحدث عن أستاذ جامعي استضافته الشركة من إحدى الجامعات الأمريكية لإلقاء محاضرة عن أبحاثه في مجال أمن الشبكات، والتي تفاعل معها الباحثون والباحثات في الشركة قبل بدايتها بالحضور، وأثناءها بمتابعتها، وبعدها من خلال الأسئلة التي انهالت عليه.
ما لفت نظري في الأستاذ الجامعي ليس منصبه الوظيفي، أو حبه لما يقوم به، أو المواضيع العلمية التي تطرق لها، وإن كانت هذه كلها مما يلفت النظر، ولكن ما لفت نظر شخص مثلي أن الأستاذ الجامعي ولد ونشأ وترعرع في مدينتي.. الرياض، بل إن والديه ما زالا يقيمان هناك. كما أنه أنهى دراسته الجامعية في جامعة الملك فهد للبترول والمعادن بمدينة الظهران في مجال هندسة الحاسب، وعمل بضع سنوات في إحدى الشركات الخاصة في الرياض.
فما الذي إذاً جعل هذا الأستاذ سعودي الولادة والنشأة والثقافة واللهجة والانتماء، بل وسعودي الاسم والهيئة يقضي سنواته العشر الأخيرة في أمريكا بعد إنهائه لدراسة درجتي الماجستير والدكتوراة في مجال علوم الحاسب؟
الجواب ببساطة أنه ليس سعودي الجنسية!
فالأخ ممن هاجر والداه وباقي أفراد عائلته من قطاع غزة إلى الرياض وذلك في الستينيات الميلادية. ولكن لم يتيسر لوالديه أو أي أحد إخوته الحصول إلى الآن على الجنسية رغم هذه السنوات الطويلة.
تعرفت على صاحبنا أكثر من خلال دعوته لتناول طعام العشاء معي ذلك اليوم، ولبى دعوتي وخرجنا سوية لمطعم بحري مشهور في بوسطن واسمه ليجيل Legal، وبوسطن بالمناسبة مشهورة بالمأكولات البحرية.
الدكتور أكمل العقد الرابع من عمره حديثا ويعمل كأستاذ مشارك في قسم علوم الحاسب في جامعته، وتبين لي أنه يزور السعودية بصفة شبه سنوية، وغالب هذه الزيارات تكون لإلقاء دورات وورش عمل في جامعته التي تخرج منها (جامعة الملك فهد للبترول والمعادن) والتي يحضرها أحيانا أحد الدكاترة الذين درسوه في الجامعة عندما كان طالبا. كما أن من أسباب زيارته المتكررة للسعودية بطبيعة الحال هو زيارة والديه وأقاربه في الرياض.
تحدثت مع صاحبنا حول موضوعات متعددة، من ضمنها مجال بحثي في الشركة، والذي أبدى سعادته أن شخصا من منطقتنا العربية يبحث في مجال الحماية من شبكات الروبوت [1]. كما تحدثنا عن أبحاثه وبعض من طلبته، ثم عرجنا على المؤتمرات العلمية في مجال شبكات الحاسب وأمن المعلومات وذكر لي بعض المؤتمرات والتي نصحني بالحرص على النشر فيها، كما تبين لي أيضا أنه سيرأس إدارة أحد المؤتمرات العلمية في مجاله والذي سيقام السنة القادمة.
تحدثنا أيضا عن الحراك الذي تشهده جامعة الملك سعود في عهد مديرها الحالي الأستاذ الدكتور عبدالله العثمان، وعن نشأة وتأسيس جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية، واللتان لعلاقتي بهما أبديت اهتماما أكبر بما قاله. فقد تحدث عن وجهة نظره بخصوص سبل تفعيل البحث العلمي في جامعة الملك سعود، وكيف أنه من الصعب على الأساتذة الذين يعملون خارج السعودية ترك وظائفهم وحياتهم العلمية والعملية في أمريكا والعمل في جامعة الملك سعود، وذكر أن أحد الخيارات الأسهل وربما الأفضل في الفترة الحالية هو زيارة الأساتذة في الخارج لفصل أو سنة للجامعة وبدء البحث هناك ثم يستمر البحث من خلال التعاون والزيارات المتبادلة. وبخصوص جامعة الملك عبدالله للعلوم التقنية فقد أبدى حماسته لفكرة الجامعة وأشار أن أحد زملائه شاهد لها إعلانا في أحد المؤتمرات العلمية، وأضاف أن هذا يعكس حرص المسؤولين في الجامعة لاستقطاب الطلبة والأساتذة المتميزين.
فسألته لماذا لا يترك هو وظيفته في جامعته الحالية ويأتي للعمل في جامعة الملك سعود، خاصة وأنها تشهد حراكا لم تشهده من قبل وأن والديه مقيمان في الرياض. فقال أن الأمر غير متعلق بكون الراتب الذي سيأخذه أقل، فهو شخصيا مستعد للتنازل عن ذلك في مقابل خدمة وإفادة البلد، وليس الأمر متعلق بضعف البحث العلمي في الجامعة، وفهمت من حديثه أنه يعني أنه طالما أن الجامعة لديها الرغبة الصادقة في ذلك مع توفير الوسائل والإمكانيات اللازمة فإن لديه الاستعداد للمساهمة في رفع مستوى البحث العلمي.
ثم ذكر السبب في تردده في العمل في الجامعة. سبب تردده ليس لإدارة الجامعة حيلة فيه ..
السبب يرجع لنظام الإقامة والعمل لغير السعودي في السعودية، والذي يجعل الموظف حتى وإن كان أستاذا جامعيا مرتبطا بعقد سنوي وغير قادر حتى على تملك منزله [3]، ومقيد من ممارسة العمل التجاري.
ذكر لي وهو متأثر: هل يعقل أن أترك وظيفتي كأستاذ مشارك والتي لا أحد يستطيع أن يفصلني منها، وحياة كريمة هنا مع الجنسية (التي منحته إياها أمريكا ولم تمنحه إياها السعودية)، ثم أذهب إلى هناك؟ وما يزيد من تأثره في الموضوع هو أنه يعتبر السعودية بلده، وحتى من يقابله من الإخوة العرب لا يصدق في البداية أنه فلسطيني.
لم أناقشه في الموضوع ولم أملك حقيقة إلا تفهم وقبول رأيه.
ثم بين لي أن الجنسية ليست مطلبا في ذاتها، ولكنها هي الوسيلة الوحيدة للحصول على هذه الامتيازات، ووافقني أنه لو كان هناك في النظام السعودي ما يشبه بطاقة الإقامة الدائمة في أمريكا (أو ما يعرف بالجرين كارد) لحل الإشكال لديه، فهو يفهم الأبعاد السياسية لمنح الجنسيات، وأهم ما يريده هو وأمثاله أن يشعروا أن إقامتهم في السعودية دائمة كما لو أنها بلدهم، وأن تتوفر لهم كافة السبل العيش الكريم. وتذكروا أنه متردد بالعمل بالرغم من أنه ولد ونشأ وتربى ودرس في السعودية، فكيف بمن لم يكن كذلك، كيف يمكن لجامعاتنا استقطابه؟
ثم استمر في حديثه ومصارحته لي وكيف أن عمه والذي توفي قبل أشهر بسيطة رحمة الله عليه أسس وبنى مخبزا في حي الملز وذكر لي اسمه، وهذا المخبز معروف ومشهور في المنطقة خاصة في موسم شهر رمضان الفضيل، ورغم ذلك لم يحصل عمه على الجنسية، بل زاد فوق ذلك أنه سيزور السعودية الشهر القادم لأداء العمرة، وإشكاليته أنه يود زيارة والديه في الرياض ولكن تأشيرة العمرة لا تسمح له بزيارة الرياض، ورغم أنه رآهما قريبا إلا إن خاطره لا يطيب له أن يزور السعودية دون رؤيتهما، وذكر لي أن قد ينجح في استغفال موظف المطار إذا لبس الثوب والشماغ ليوهمه أن سعودي، أو يحاول سؤال مسؤول يستطيع مساعدته في تجاوز هذا الموضوع.
ولكنه رغم كل ما ذكر، فقد أبدى استعدادا للمجيء والعمل في الرياض، وهذا يشير لطيبة معدنه، ولكنه لا يريد ترك عمله الحالي وإلا هو متيقن من أن ظروف العمل في الجامعة التي سيعمل فيها ستوفر له الوقت والموارد التي يحتاجها لأداء أبحاثه بالشكل الذي يرضيه.
كان حديثي مع الدكتور ذا شجون، ولكننا اضطررنا للتوقف إذ كان يريد مراجعة ما أعده لمحاضرة أخرى سيلقيها في جامعة بوسطن غدا. وأوصلته بعدها للفندق وعدت إلى شقتي وأنا أفكر فيما سمعت ..
تعقيب: في اليوم التالي لنشر المقال في صحيفة الوطن اتصل بي معالي مدير جامعة الملك سعود أ.د. عبدالله العثمان من الرياض، وكنت وقتها ما زلت أدرس في بتسبرغ. تحدث معي الدكتور عبدالله في مكالمة مطولة عن اهتمامه باستقطاب العلماء المتميزين لجامعة الملك سعود وتسهيل إجراءات الحصول على التأشيرة وتلبية متطلباتهم البحثية، كما طلب مني معلومات الدكتور الذي تحدثت عنه في المقال حتى يتواصل مكتبه معه، وفعلا تم التواصل وزار الدكتور الرياض عدة مرات وانخرط في عدد المشاريع البحثية والأعمال المشتركة.
[1] سبق الحديث عن شبكات الروبوت في يوميتي شبكات الروبوت.
[2] أصبح بمقدور غير السعودي تملك عقار في السعودية بعد صدور نظام تملك غير السعوديين للعقار واستثماره عام 1421 هـ.
اليومية القادمة: مشرفي وعلاقته بكامبريدج والقهوة العربية