هاكر تائب 22

أواصل الحديث عن مدج والبرنامج الذي صممه لكسر كلمات السر، والذي انتقلت ملكيته لشركة سيمانتك بعد شرائها لشركة مدج والتي بدورها أوقفت بيعه بنهاية عام 2006.

وقبل أن أكمل أوضح أن لبرامج كسر كلمات السر استخدامات أخرى غير محاولة معرفة كلمات السر للآخرين، من ذلك بعض الاستخدامات السلمية مثل استرجاع كلمات السر المنسية أو اختبار قوة كلمات السر المستخدمة.

ذكر لنا مدج بلسانه أثناء تناول الغداء مع بعض الزملاء في العمل أنه يوجد بند في عقد شراء البرنامج الذي صممه ينص في أنه حالة توقف الشركة عن بيع البرنامج لأكثر من سنة فإنه يتعين على الشركة بيع البرنامج لمدج بسعر السوق، وحيث أنه مرت أكثر من سنة على عدم بيع البرنامج، فكان مدج وقتها في طور إنهاء الخطوات اللازمة لاسترجاع ملكية البرنامج [1] وهو متحمس لتطوير البرنامج ليتوافق مع الإصدارات الجديدة لنظام التشغيل Windows ويندوز وثم تسويقه كمنتج.

سألت مدج بعدها عن سعر السوق فقال والابتسامة تملئ فاه: زيرو! (صفر) لأن البرنامج حاليا لا يباع. ثم أضاف أنه غالبا سيتم الاتفاق على مبلغ زهيد في حدود 10 دولار لاسترداد الملكية (وربما من أسباب ذلك أيضا حفظ ماء وجه سيمانتك من بيع البرنامج بدون مقابل)، سألته أيضا إن كانت شركة سيمانتك على علم بهذا البند في العقد الذي مكنه من استرداد البرنامج؟ فأجاب أنه فيما يبدو أنهم لم ينتبهوا له خاصة أنه هذا البند كان أحد بنود عقد الشراء لشركة أخرى صغيرة امتلكت البرنامج قبل أن تشتري سيمانتك تلك الشركة الصغيرة، وأضاف أن محاميه أشار عليه بتضمين هذا البند حتى يستطيع استرجاع ملكيته [2]

فهذا درس تعلمته وهو أن شطارة المهندسين والمبرمجين وحدها في أمريكا لا تكفي للحصول على المال ولكن لا بد من شطارة المحامين معهم!

وقد أحسن مدج توظيف مهارته حيث كان من أوائل الهاكرز الذين بنوا علاقات مع القطاعين الحكومي والصناعي، حيث تحدث في مؤتمرات علمية لها مكانتها. ومدج مع ستة من رفاقه كانوا ممن شهدوا أمام لجنة من لجان الكونجرس الأمريكي في عام 1998 أنهم يستطيعون تعطيل الإنترنت خلال 30 دقيقة. وفي عام 2000 دعاه الرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون للالتقاء به ومع وزرائه للتشاور بخصوص الانتشار المتصاعد لاختراقات أمن الإنترنت.

مدج يعد من الجيل الجديد مقارنة بمن سبقت وأن كتبت عنهم من موظفي الشركة، واسمه الحقيقي Peiter Zatko بيتر زاتكو [3]، وتحرص شركة بي بي إن على الاستفادة منه كخبير في مجال الاختراقات من خلال عمله مع فرق العمل التي تعمل على مشاريع الشركة المختلفة.

الجميل في الأمر أنه من أحد أعضاء فريق عمل المشروع الذي أعمل فيه. فهو يحضر اجتماعات المشروع ونتناقش خلال هذه الاجتماعات حول أفضل الحلول الممكنة لمقاومة الخطر الأمني للمشكلة التي كنا نقوم بدراستها في المشروع، والتي سيكون حديثي عنها في الموضوع القادم.

وتستمر شركة بي بي إن بإثبات نفسها كمكان غير عادي


[1] استرجاع ملكية البرنامج تعني استرجاع حقه في استخدام الكود code لأغراض ربحية.

[2] تمكن مدج (بعد انتهاء فترة عملي بالشركة) من استعادة ملكية البرنامج في بداية عام 2009 وقام بعد ذلك طرحه كمنتج تجاري من أسعار تبدأ من 395 دولار. فهنيئا له ولشركائه هذا النجاح.

[3] بعض الأمريكيين لسبب أو آخر يختارون لأنفسهم اسما قصيرا، بحيث يصبح هو الاسم المستخدم لهم وهو ما يعرف بـ Nickname، أحيانا يكون الاسم مشتقا من اسمهم الأصلي (مثال Jimmy لـ James) أو مرتبطا به (مثال Bill لـ William)، وأحيانا يكون الاسم غريبا بعض الشيء ولا علاقة له بالاسم الأصلي، وكثيرا ما يشتهر الشخص باسمه الغريب حتى أن المقربين للشخص (من غير أقاربه طبعا) قد لا يعرفون أصلا أنه يمتلك اسما آخر!

اليومية القادمة: شبكات الروبوت

هاكر تائب 12


تحدثت كثيرا عن تاريخ شركة بي بي إن والإنترنت والأشخاص المساهمين في تطويرها، ولكن لم أتحدث عن بعض من حاضرها.
لذا سأتحدث اليوم عن شخص يعرف بـ Mudge مدج، ومدج هذا سأسوغ لنفسي أن أصفه بـ هاكر “تائب”، وإن كنت أقر أن وصف التائب غير دقيق، ليس لأن التوبة تقتضي الكف عن الذنب ولكن لأن من مقتضياتها القيام بذنب ابتداء، ولا أعلم أن لصاحبنا ذنب سابق [1].

ورغم أن دارسة مدج الجامعية كانت في الموسيقى إلا أن فنه هو في إيجاد الثغرات الأمنية في برامج وأنظمة الإنترنت. وله تاريخ في ذلك، فبحسب موقع ويكيبيديا فقد كان من أوائل من بدأ في دراسة الثغرة الأمنية التي عرفت بـ Buffer Overflow، بل إنه من أوائل من كتب ونشر برنامج لاستغلال هذه الثغرة عندما كان عمره 25 سنة. والمكان لا يسمح بشرح كيفية استغلال هذه الثغرة، ولكن سأذكر أن من أسبابها ضعف المواصفات الأمنية في لغتي C و ++C والمستخدمتين في تصميم كثير من الأنظمة، وأن استغلال هذه الثغرة يعطي للمخترق السيطرة الكاملة على نظام التشغيل [2].

كان لمدج مع مجموعة من رفاقه الهاكرز شقة يجتمعون فيها في بوسطن لتطوير بعض البرامج، أحد الأمثلة برنامج لكسر كلمات السر، وكان هو المطور الأساسي لهذا البرامج. وهذا البرنامج انتقلت ملكيته لشركة Symantec سيمانتك المعروفة بإصدار برامج مكافحة الفيروسات وذلك بعدما اشترت سيمانتك شركة مدج ورفاقه في عام 2004، ولكن بعد فترة من تملك شركة سيمانتك للبرنامج قررت التوقف عن بيعه وذلك في نهاية عام 2006.

فهل كان هذا القرار من شركة سيمانتك هو نهاية هذا البرنامج؟

سنعرف الإجابة في اليومية القادمة …


[1] الهاكر مأخوذة من الكلمة الإنجليزية Hacker والمقصود به المخترق وهو شخص لديه معرفة واسعة ومهارة في إيجاد الثغرات الأمنية في أنظمة وبرامج الحاسب، وبناء على كيفية توظيفه لهذه المعرفة والمهارة يمكن وصفه بهاكر شرير إن استخدم هذه المهارة في سرقة المعلومات أو الأموال، أو هاكر خيّر إن استخدم هذه المهارة للمساهمة في تطوير أنظمة وبرامج الحاسب. وصاحبنا مدج من النوع الثاني.

[2] درسنا هذه الثغرة في مادة أمن الحاسب في جامعة كارنيجي ميلون، حيث أعطانا الدكتور وقتها واجبا للقيام بكتابة برنامج لاستغلال هذه الثغرة في شبكة معزولة عن الإنترنت مخصصة لمثل هذه التطبيقات، وقد قمت مع زميل كوري بكتابة البرنامج ونجحنا في السيطرة على نظام التشغيل! لكني أقر أن الزميل الكوري قام بالدور الأكبر في هذا الواجب، وما ذلك إلا لأني قمت بالدور الأكبر في الواجبات السابقة.

اليومية القادمة: هاكر تائب 22

أزمة الأربعة مليار

استكمالا للحديث عن محاضرة نائب رئيس شركة جوجل فينت سيرف

تحدث عن مشكلة قرب نفاد عناوين الإنترنت وأنه يتوقع في عام 2011 م أن تنفد هذا العناوين بسبب كثرة الأجهزة التي تتصل بالإنترنت، والأجهزة هنا تشمل الحاسبات الشخصية والأجهزة التي تستضيف مواقع الإنترنت أو التي تنظم اتصالات الإنترنت أو تقوم بغيرها من المهام.

وقبل أن أواصل عرض ما ذكر في المحاضرة أود أن أشرح مشكلة نفاد عناوين الإنترنت بشكل مختصر.

كل جهاز يتصل بالإنترنت لا بد أن يكون لديه عنوان رقمي، بما في ذلك الجهاز الذي تتصفح فيه الإنترنت، ويوصف هذا العنوان بـ IP Address و IP هي اختصار لـ Internet Protocol، أي بروتوكول الإنترنت والذي تقوم عليه جميع الاتصالات عبر الإنترنت. كما أن جميع أسماء المواقع (مثال www.bbn.com) مرتبطة بعنوان IP.

العنوان يتكون من 32 خانة ثنائية (بت)، والخانة الثنائية تأخذ قيمتين فقط إما واحد أو صفر، مما يعني أنه بالإمكان أن يكون لدينا بناء على عملية رياضية بسيطة أكثر من أربعة مليار عنوان! [1]

ولكن منذ عشرين سنة تقريبا بدأ يتنبأ خبراء الإنترنت أن الأربعة مليار عنوان لن تكفي وذلك بسبب العدد الكبير المتوقع للمستخدمين والمواقع وباقي الأجهزة الأخرى المتصلة بالإنترنت. مما قاد الباحثين والمهندسين في التسعينيات لتصميم بروتوكول جديد للإنترنت يعرف بـ IPv6 بحيث خصص للعنوان 128 بت، والتي تكفي (ولا تصعقوا من الرقم) لأكثر من 340 مليار مليار مليار مليار عنوان! [2]

الانتقال من البروتوكول القديم إلى الجديد تأخر سنوات ومن أسباب ذلك التكلفة المتمثلة في ترقية البنية التحتية للإنترنت لاستخدام البروتوكول الجديد، إضافة إلى ذلك توفر بعض العلاجات المؤقتة للمشكلة [3]. ولكن ما أخبرنا عنه سيرف أنه في عام  2011 م سيضطر الناس للانتقال إلى استخدام البروتوكول الجديد لأن الأربعة مليار عنوان وقتها لن تكفي!

الطريف فيما ذكره سيرف هو إقراره بأنه هو المتسبب في هذه الأزمة، لأنه هو من أشرف قبل حوالي 30 سنة على تصميم البروتوكول الحالي، ويواصل حديثه أنه تناقش فريق العمل وقتها حول عدد الخانات التي ستعطى للعنوان، وأن الآراء كانت منقسمة بالتساوي بين استخدام 32 بت و 128 بت، فقرر هو استخدام 32 بت لأنه عدد أصغر، ولأن الإنترنت في ذلك الوقت كانت مجرد تجربة. ثم أضاف ساخرا أن هذه التجربة لم تنتهي إلى الآن، وأن التطبيق الفعلي لها سيكون عند استخدام البروتوكول الجديد!

طبعا الرجل لا يلام لأن من كان سيتوقع أن تصل الإنترنت إلى ما وصلت إليه الآن …


[1] حساب هذا الرقم مبني على وجود 32 خانة، كل خانة تأخذ قيمتين، فيكون مجموع الاحتمالات الممكنة هو أن تضرب رقم 2 في نفسه 32 مرة، وهو ما يعرف بالرياضيات بالقوى، ويصبح الناتج 4294967296.

[2] يعاد تطبيق نفس العملية بضرب رقم 2 في نفسه 128 مرة، ولكن الناتج لضخامته لا يمكن كتابته.

[3] من تلك الحلول استخدام عناوين محلية داخل كل شبكة صغيرة (مثال شبكة المنزل) بحيث تتصل أجهزة الشبكة الصغيرة بالإنترنت عن طريق جهاز واحد وبعنوان واحد، وهو ما يعرف بـ (NAT) وهي اختصار Network Address Translation.

اليومية القادمة: هاكر تائب

مبشر إنترنتي

فينت سيرف – المصدر: Google site

من ضمن نشاطات الشركة استضافة الباحثين والمتميزين في المجالات العلمية للتحدث عن نشاطاتهم، وعادة ما تكون المحاضرة في غرفة متوسطة الحجم وتلقى خلال وقت الغداء حتى يحضر أكبر عدد من الموظفين بحيث يتناولون غدائهم أثناء سماع المحاضرة، ولا تعقد المحاضرات العامة في غير هذا الوقت لارتباط الموظفين باجتماعات خلال باقي أوقات اليوم.

ولكن الأمر يختلف إذا كان المتحدث هو نائب شركة جوجل ورجل أفنى عمره في تطوير الإنترنت حتى أن مسمى وظيفته في جوجل هو Internet Evangelist والتي يمكن ترجمتها إلى مبشر إنترنتي [1]. فقد أقيمت المحاضرة الساعة الرابعة مساء حتى يمكن استخدام منطقة الكافيتريا كلها لاستضافة الحضور.

أما عن المحاضر فاسمه Vint Cerf فينت سيرف والذي مثل راي توملينسون (مخترع الإيميل) في الستينات من عمره وإن كان أكثر اهتماما بمظهره وبصحته ووزنه، وهو أيضا من ضمن قائمة أعلى خمسين شخصية صاحبة رؤية تقنية والتي نشرتها مجلة بي سي وورلد، وكان ترتيبه السادس عشر.

لأهمية المحاضرة حرصت أن يحضرها أخي ناصر والذي كان يزورني وقتها في بوسطن. تحدث سيرف أمام حشد كبير من موظفي الشركة إضافة إلى معارف موظفي الشركة والذين أتوا من خارج الشركة لحرصهم للاستماع إليه. كان جل حديث سيرف عن تاريخ الإنترنت، وكان يعرض على الحضور صورا لبعض الأجهزة التي استخدمت عندما بدأت الإنترنت، ويشير مثلا أن هذا الجهاز أو هذه الخوارزمية طورها أو ساهم في تطويرها فلان ثم يشير إليه في الحضور (مثل توملينسون) أو يذكر أنه كان يعمل في شركة بي بي إن، واستمر في حديثه المشوق والمضحك في نفس الوقت. وكان مما ذكر أنه مع بداية السنة القادمة (أي 2009) سيكون بإمكان عناوين مواقع الإنترنت أن تنتهي بأي كلمة بعد النقطة (دوت)، كما يمكن أن تكتب بأي لغة.

وللحديث بقية


[1] أود أن أوضح أن لا علاقة للرجل بالتنصير، ولكن القوم يستخدمون المصطلحات الدينية للدلالة على الأهمية، فكثيرا ما يستخدمون كلمة Bible والتي تعني الإنجيل لوصف الكتب ذات الأهمية المرجعية، وحتى وإن كانت تقنية.

اليومية القادمة: أزمة الأربعة مليار

الاستعارة … مقال من أيام الدراسة بالجامعة

هذا مقال قصير كتبته وأنا في أدرس في المرحلة الثانوية، ثم نشرته في رسالة الجامعة عندما كنت طالبا في السنة الأولى، وذلك لفضفضة الشعور الذي كان يكتنفي بخصوص تجربتي في الإعارة. أذكر أن إثنين من الزملاء ذكرا أن المقال عبر عن شعورهما تجاه هذا الموضوع. لا أدري إن كان بعض طلبة اليوم سيرون أن هذا المقال يعبر أيضا عن شعورهما تجاه هذه المشكلة أو لا؟ أترككم مع المقال، علماً أنه أول مقال أنشره في مطبوعة رسمية.

الاستعارة

عندما يطلب منك أحد الأشخاص قلماً أو كتاباً أو شريطاً … إلخ، باسم الاستعارة، تتردد في الموافقة، فإن أعرته ما طلب تيقنت أنه لن يرجع إليك، إلا إذا أعرته لإنسان يحافظ على ما يستعير ولكن هذا النوع من الناس قليل للأسف، وإن لم تعره أحسست بالذنب لأنك امتنعت عن مساعدته. فلو توقف الأمر على هذا الحال كنت سعيد الحظ، لأنك قد تواجه شخصاً لا يعترف بالاستعارة، فإن أعرته شيئاً  اعتبره ملكاً له ولا يحق لك استرجاعه، وإذا امتنعت عن إعارته شهّر بك بين الناس أنك لا تعير ولا تعطي وإنما أنت بخيل طماع لاتعرف غير نفسك، حينئذٍ يكون هذا الشخص، قد زاد الطين بلةً كما يقولون. وفي بعض الأحيان تنسى من أعرته كتابك ومن لم تعره، فلا تعرف ممن تطلب كتابك إن احتجته.

فلو تأملنا هذه المشكلة نجد أن هناك حلولاً قد تفيد، منها: كتابة اسمك على جميع أغراضك التي قد تعيرها، عمل جدول أو تخصيص ورقة تبيّن فيها ما استعرته وما أعرته مصحوبة بالأسماء والأيام، وأخيراً أن تذكّر من أعرته بالله وبيوم الحساب، وأن عليه إعادة ما استعار بعد الانتهاء منه مباشرة.

باسل السدحان

@

راي توملينسون … مخترع الإيميل – المصدر: BBN Technologies site

من منا من لا يستخدم هذه العلامة عند إرساله للرسائل عبر البريد الإلكتروني (الإيميل)؟

هل فكرتم من أتى بهذه العلامة؟ أو من الذي أرسل أول إيميل؟ ومتى كان ذلك؟

الجواب هو شخص يدعى Ray Tomlinson راي توملينسون وذلك في عام 1971م أثناء عمله في شركة بي بي إن [1].

يذكر توملينسون في موقعه أنه أول من أرسل رسالة بين جهازين عبر شبكة آربانت، ويشرح سبب اختياره لعلامة @ وذلك لأنها لا تظهر في أسماء الأشخاص أو الأجهزة فبالتالي تصلح للفصل بين الاسمين، كما أن العلامة نفسها اختصار لكلمة at الإنجليزية والتي من معانيها عند، فيكون المعنى أن اسم المستخدم (الشطر الأول من العنوان) هو عند الجهاز الفلاني (الشطر الثاني من العنوان). ويجيب على أحد الأسئلة التي يتكرر طرحها عليه حول طبيعة استخدام الإيميل عند بدايته، فيقول أن استخداماته لم تكن مختلفة عما هي عليه الآن، باستثناء أنه لم يوجد وقتها رسائل مزعجة وهو ما يعرف بالسبام spam.

بقي أن أضيف أن توملينسون ما زال موظفا في شركة بي بي إن (أثناء الفترة التي عملت فيها بالشركة)، وهو في منتصف الستينات من عمره، وقضى ما يربو على الأربعين عاما في رحاب هذه الشركة، وأراه من وقت لآخر في كافيتريا الشركة. وقد حصل مؤخرا على الترتيب السادس من ضمن قائمة أعلى خمسين شخصية صاحبة رؤية تقنية، والتي نشرتها مجلة PC WORLD بي سي وورلد في شهر مايو من عام 2008 [2]. وكان من ضمن القائمة كذلك Sergey Brin سيرجي برين و Larry Page لاري بيج مؤسسي شركة جوجل في الترتيب الثاني، و Bill Gates بيل جيتس مؤسس شركة مايكروسوفت في الترتيب الثالث، وعقبال ما يكون لدى واحد من ربعنا موقع في هذه القائمة.

راودني نفس الإحساس وقتها بقيمة المكان الذي أعمل فيه، وكيف أن أحد أكثر التطبيقات استخداما اليوم بدأ من هنا!

[1] بعكس تاريخ انضمام جون زنكي للشركة، فإني لم أكن موجودا في هذا العالم لأشهد إرسال أول إيميل.

[2] يمكن الاطلاع على قائمة أعلى خمسين شخصية صاحبة رؤية تقنية من مجلة بي سي وورلد على هذا الرابط Top 50 Tech Visionaries

اليومية القادمة: مبشر إنترنتي

آربانت … بداية الإنترنت

أعضاء الفريق الذي ساهم في إنشاء آربانت في عام 1969 – المصدر: BBN Technologies site

 

أحد التخصصات الفرعية في مجال الهندسة الكهربائية وهندسة الحاسب هو شبكات الحاسب. وكثيرا ما تبدأ أول محاضرة في مادة مقدمة الشبكات عن الحديث عن الإنترنت، وتحديدا تاريخ الإنترنت وكيف أنها بدأت بشكبة صغيرة لاستخدامات الجيش الأمريكي، وكان اسم هذه الشبكة ARPANET آربانت. وآربا هي عبارة عن الأحرف الأولى لوكالة المشاريع البحثية المتقدمة (Advanced Research Projects Agency)، والتي تعرف الآن باسم DARPA داربا، بعض إضافة وصف الدفاعية (Defense) على مشاريع الوكالة [1].

وداربا هذه علم على رأسه نار لدى الباحثين في مجالات الهندسة وعلوم الحاسب وغيرها من العلوم، إذ أنها تقوم بدعم كثير من المشارع البحثية في الجامعات الأمريكية وغيرها من المؤسسات البحثية بميزانية سنوية يبلغ متوسطها 3,2 مليار دولار. يقتات من هذه الميزانية عدد كبير من طلبة الدكتوراة لتغطية رسومهم الدراسية إضافة إلى مرتباتهم الشهرية. ونظرا لكثرة المشاريع التي تمولها داربا داخل جامعتي كارنيجي ميلون ونظرا لكون داربا تتبع مباشرة لوزارة الدفاع الأمريكية، فقد ذكر لي أحد زملائي في الجامعة أنه سبق وأن قام بعض منسوبو الجامعة بمظاهرة ضد الجامعة نفسها! وكان السبب في ذلك أن بعض أنشطة وزارة الدفاع في نظرهم تتنافى مع القيم الأخلاقية المتعلقة بالمحافظة على الكرامة الإنسانية.

عودة لآربانت … والتي يفترض أن اسمها مر على كل من درس تاريخ الإنترنت. ولكن ما لا قد تعلمونه هو أن الشركة التي بنت وأنشأت هذه الشبكة للجيش الأمريكي هي شركة بي بي إن!

ذكر ذلك لي جون زنكي نفسه حيث قال أنه بدأ العمل في الشركة قبل 25 عاما عندما كان “صبيا” إذ كان عمره وقتها 25 عاما [2]. كان زملاء زنكي الأقدم منه في العمل قد أنشؤوا فعليا هذه الشبكة في عام 1969 م، ولكن العمل كان ما زال ساريا لتطويرها عندما انضم إلى الشركة، وبدأ بذكر أسماء زملائه واحدا تلوا الواحد والذي علموا على تطوير هذه الشبكة مع إشارته إلى مواقع مكاتبهم في المبنى، فلان هنا في الدور الثاني وعلان هناك في الدور الخامس وهكذا… بل أنه أخرج ظرفا كرتونيا يحتفظ به خلف خزانته، ثم فتحه فإذا هو مخطط الشبكة قبل 25 سنة وكان عمر المخطط واضحا إذا طبع عليه عام 1983! وبدا هذا المخطط وكأنه مخطوطة أثرية عمرها 250 سنة وليس 25 سنة. وبين لي زنكي عن نيته بأن يضع هذه “المخطوطة” في إطار ويعلقها في مكتبه في يوم ما.

أحسست بعد حديثي معه بقيمة المكان الذي أعمل فيه، وكيف أنه كان مهدا لأحد أعظم اختراعات البشرية!



[1] الملفت في النظر أن هذا التغير في اسم الوكالة حصل مرتين، فكانت في البداية آربا وذلك في عام 1958، ثم تغير اسمها إلى داربا في عام 1972، ثم إلى آربا مرة أخرى في عام 1993، ثم إلى داربا مرة أخرى في عام 1996!

[2] سألني زنكي مداعبا إن كنت قد ولدت قبل 25 عاما؟ طبعا عندما تتحدث مع من يفوقك عمرا فلا يوجد داعي لتصغير نفسك خاصة وأنه يعتبر من عمره 25 بمنزلة الصبي، فأجبت مباشرة بأني كنت موجودا في هذا العالم، مما يعني أني شهدت بداية عمله في الشركة.

اليومية القادمة: @

في ذكرى وفاة أ.د. خليل محمود أبو عبده

نشرت هذه التدوينة كمقال في رسالة الجامعة – العدد 1029 – تاريخ 1431/8/12 هـ الموافق 2010/7/24 م

قبل عامين وفي نفس هذا الفترة من العام (وكنت وقتها ما زلت أدرس في الولايات المتحدة) جاءتي رسالة على جوالي من صديقي وزميلي أيام الكلية الأخ فواز القديمي تنعى وفاة الأستاذ الدكتور خليل محمود أبو عبده. أذكر تماما في أي جزء من بيتي كنت وقت قراءة الرسالة، فقد حزنت كثيرا على وفاة هذا الأستاذ الفاضل والذي كانت وفاته خسارة كبيرة لقسم الهندسة الميكانيكية بجامعة الملك سعود.

معرفتي بالدكتور خليل كانت من خلال تدريسه لي ولزملائي في قسم الهندسة الكهربائية مقرر الديناميكية الحرارية Thermodynamics. وحينها كان طلبة الأقسام المختلفة في كلية الهندسة يدرسون مقررات من بعض أقسام الهندسة الأخرى، وذلك قبل أن تقلل ساعات الخطة الدراسية وتحذف هذه المقررات من الخطة.

لا أرى أن علاقتي بالدكتور خليل تؤهلني لإعطائه حقه في الحديث عنه، وأترك هذا الأمر لمن درس عنده أو عمل معه من أساتذة قسم الهندسة الميكانيكية، فهم الذين عرفوه عن قرب. ولكني أرى أن حديثي عنه هو جزء من وفاء طالب مع أستاذه.

وسأتحدث عن جانبين عُرف بهما هذا العالم رحمه الله وهما الخلق الراقي، والدقة والمثابرة والتميز في تقديم العلم والمعرفة. فمما نقل لي عنه أنه كان رحمه الله يصرف الوقت ويبذل جهدا مضاعفا في إعداد محاضرته وامتحاناته، وكان لا يعطي امتحانا قبل أن يقوم هو بحله حلا كاملا على الورق دون الاكتفاء بمجرد التفكير بطريقة حله في الذهن. وحيث أنني وزملائي عندما كنا طلبة درسنا المقرر بعدما قطعنا شوطا في دراسة مقررات تخصص الهندسة الكهربائية، فإن كثيرا من الطلبة كانوا لا يألفون مقررات خارج تخصصهم، ولكن الدكتور خليل والذي قارب الستين عاما وقتها عرف بخبرته كيف يتصرف مع هذا الموضوع، فعندما دخل علينا في أول محاضرة كان مما ذكره أن البعض قد يرى أن المادة غربية، وما غريب إلا الشيطان! فقد كان يستشهد كثيراً في محاضراته بالأمثال وبالحكم التي تضفي على محاضرته تميزاً نوعياً يتكامل مع قوة المادة العلمية التي كان يلقيها على طلبته.

كان يمازحنا بقوله أن أصل كلمة Quiz عربي وترجع لكويس بمعنى أن Quiz كويس لنا. حتى أن في إحدى المرات امتلأ مدخل مكتبه بعدد من الطلبة في المقرر يريدون أن يسألوه بعض الأسئلة حول محتوى أحد الكويزات الكويسة، وقال لنا وهو يمازحنا عاتبا، ما هذا يا طلبة قسم الهندسة الكهربائية؟! ما رأيكم أن نكتب بجريدة الرياض طلبة الهندسة الكهربائية يتجمهرون عند مكتب أستاذ في قسم الهندسة الميكانيكية؟

كان يحرص على إيصال مفاهيم الديناميكية الحرارية من خلال ربطها بصور ذهنية أو تشبيهها بمفاهيم أخرى يعرفها الطلبة، ومن ذاك:

  • تحدث مرة عن تفاعل معين في المادة وقال أنه مهما زدنا في عوامل هذا التفاعل فلن يتأثر، ثم شبه نفسه بذلك وأنه مهما أكل فإن وزنه لا يزيد، فقد كان نحيلا رحمه الله.
  • كان يشرح لنا أن أحد أساليب إثبات النظريات في الديناميكية الحرارية وهي أن تضع افتراضا وتفترض صحته وتمشي على هذا الافتراض، فإذا اصطدمت بالحائط فهذا يعني أنه خاطئ، فإن لم تصطدم فهو صحيح إلى أن تصطدم بحائط آخر.
  • سألنا مرة كم كثافة الماء؟ فأجبته 1 كجم للمتر المكعب، وكنت وقتها أخلط في هذا الموضوع بين ا جمسم3 أو 1000 كغمم3، فأوقف الشرح … وتغيرت نبرته وبدأ أكثر جدية، وسألنا كم ارتفاع المكتب الذي أمامنا، فقلنا لا نعرف؟ فقال كم تقريبا … فقلنا متر، وقال كم عرضه فقلنا متر، ثم سألنا كم طول نصفه فقلنا متر، ثم علّق وقال تخليوا أننا ملأنا هذه المساحة بالماء، فهل يمكن أن يكون وزنها كيلو جرام واحد فقط؟! فمن بعدها لم أعد أخلط في موضوع كثافة الماء، رغم أن لم أحتج لهذه المعلومة أبدا بعد إنهاء المقرر.
  • تحدث مرة عن انتقال تيار الحرارة من خلال المواد المختلفة، وقارن لنا بين هذا وبين انقال التيار الكهربائي من خلال مواد مختلفة، وشرح لنا مفهوم المقاومة الحرارية وأنها شبيه لمفهوم المقاومة الكهربائية، ثم ختم شرحه إن كان عندكم مقاومة في الكهرباء فنحن عندنا مقاومة في الحرارة أيضا!

درّس الدكتور خليل في الجامعة لأكثر من ربع قرن تخرج على يديه خلالها أجيال تلو أجيال ومات وهو قائم على مهامه في العلم والتعليم، وصلي عليه ودفن يوم الخميس الثالث عشر من شهر شعبان لعام 1429 هـ وكان له من العمر ست وستون عاماً.

رحمك الله يا أستاذي وأسكنك فسيح جناته وجمعنا معك في الفردوس الأعلى … آمين

رابط المقال في رسالة الجامعة: http://rs.ksu.edu.sa/14942.html

عماد الدين زنكي

صورة تنسب لعماد الدين زنكي

قبل الحديث عن بداية الإنترنت سأتحدث عن أحد من عاصر بداياتها.

خلال الأسبوع الأول من عملي في الشركة مر على مكتبي أحد الباحثين في الشركة وكان ضخم الجثة عريض المنكبين كث اللحية أصلع الرأس بلغ الخمسين من عمره وكان يتكأ على عصا [1].

رحب الرجل بي كوني أحد المتدربين الجدد خلال فترة الصيف وعرف بنفسه قائلاجون زنكي، بعدها عرفت بنفسي … باسل السدحان، ثم انقطع الحديث إذ جائني أحد من أعمل معه في المشروع واعتذرت عن مواصلة الحديث مع زنكي.

جلست بعدها أفكر بهذا الزنكي، فشكله قطعا يصلح أن يكون من المنطقة العربية وما أحاطها، واسم عائلته اسم لعائلة حاكمين وقائدين عسكريين مسلمين من أصل تركي وهما عماد الدين زنكي وابنه نور الدين زنكي. وكانت إمارة هذين الحاكمين في بلاد الشام حيث حاربا الصليبييّن، وكان من ضمن قادة جيوش نورالدين القائد المعروف صلاح الدين الأيوبي والذي استقل فيما بعد بحكمه عنهما في مصر ثم ضم الشام والحجاز وقهر الصليبيين في حطين ثم استرجع القدس منهم، وقصص هؤلاء القادة معروفة وموجودة في كتب التاريخ.

عودة لزنكي المعاصر … فقد زرت مكتبه في اليوم التالي وسلمت عليه، وبعدما فتحت الحديث معه سألته إذا كان أجداده قد قدموا من تركيا، فلم يؤكد أو ينفي المعلومة ولكنه ذكر أن اسمه باللغة الألمانية يعني الرجل ذو الأنف الكبير. تذكرت عندها بيت الشعر الذي درسناه في مادة الأدب في موضوع الهجاء إذ قال الشاعر: وجه المغيرة كله أنف موف عليه كأنه سقف [2]. عودة للموضوع مرة أخرى … فذكرت له أسماء عماد الدين ومحمود الدين زنكي، ولكنه لم يعرفهما، فذكرت أن صلاح الدين كان أحد القادة في جيوشهما، ظنا مني أن صلاح الدين معروف، ولكنه لم يعرفه أيضا، قلت له أرأيت فيلم مملكة السماء والذي عرض قبل سنتين عن صلاح الدين، ولكن كانت إجابته بالنفي، فأخذت على عاتقي إعطاء نبذة عنهم.

بعدها بيوم استضفته في مكتبي لأريه ماذا تقول موسوعة ويكيبيديا [3] عن عماد الدين زنكي. ما لفت نظري هو أن الصفحة ذكرت أن إحدى الأساطير الصليبية تذكر أن أم عماد الدين هي من أصل نمساوي، فذكر زنكي المعاصر أن هذا أصله، فأحسست بأني وجدت الرابط بين الزنكيين، فقلت له أن الإمبراطوريتين التركية والنمساوية كان بينهما حدود مشتركة، فمن الطبيعي أن الناس كان يتنقلون بينهما [4]. أضاف بعدها أن جده كان كاثوليكيا وخبازا يهوديا، بمعنى أن كان يخبز حسب الأعراف اليهودية، وأضاف مما يعني أن أبا جده كان يهوديا، وأن السبب في أن جده كان كاثوليكيا وليس يهوديا يجب أن يكون أن أم جده كانت كاثوليكية.

طلب مني زنكي بعدها إرسال رابط الموضوع من موقع ويكيبديا له حتى يرسلها لأقاربه وقد فعل

من الآن كلما جاء ذكر القائد عماد الدين زنكي فسيتبادر إلى مخيلتي صورة جون زنكي في شكله وهيئته



[1] كان يتكأ على عصا وذلك بسبب عملية أجريت على ركبته حديثا.

[2] أتمنى أن تكون حذفت هذه القصيدة من المنهج إذ أنها تدخل من ضمن السخرية بأشكال الناس.

[3] صفحة عماد الدين زنكي على موقع ويكيبديا en.wikipedia.org/wiki/Zengi، ويجدر أن أذكر أن موسوعة ويكيبيديا تقوم على القارئين لها بحيث يكتب أحدهم معلومات عن موضوع ما، ويقوم باقي القارئين بمراجعته وتنقيحه. وهي منشورة بعدد كبير من اللغات بما في ذلك اللغة العربية. موقع الموسوعة هو www.wikipedia.org

[4] بعد مراجعة صفحة عماد الدين زنكي على موقع ويكيبيديا مرة أخرى، وجدت بعد ذكر هذه الأسطورة ما يفند صحتها.

اليومية القادمة: آربانت … بداية الإنترنت

خواطر مبتعث بعد غياب عامين عن الرياض

نشرت هذا المقال قبل أربع سنوات في مجلة “صوت المبتعث” المحتجبة، وأعيد نشره في مدونتي.

ما لفت نظري بعد إعادة قراءة المقال هو كيف أني لم أعد أستشعر كيف كانت شوارع الرياض وأسواقها قبل ست سنوات من الآن! يبدو أن ذاكرتي بفعل كثرة التغيرات وسرعتها لم تعد قادرة على تذكر ما كان يحدث قبل سنوات بسيطة، فما بالكم بتذكر ما حدث قبل سنوات كثيرة!

جامع الراجحي – الرياض

بعد غياب عامين عن الرياض

خواطر مبتعث

أكتب خواطري هذه خلال زيارتي الأخيرة للرياض في صيف 2006 م الموافق لعام 1427 هـ، وذلك بعد مرور عامين كاملين لم أزر فيهما مدينة الرياض. وقد تسنى لي بعد غياب هذه المدة رؤية مقدار التغير الذي طرأ على المدينة. مما ولد في نفسي خواطر أحببت أن أسجلها وأشاركها مع غيري من سكان عاصمة بلدنا الغالي وخاصة زملائي المبتعثين الذين حال بينهم وبين زيارتها إما انتهاء تأشيرات دخولهم، وخوفهم من عدم إعادة إصدارها عند زيارة الرياض أو انشغالهم بمتطلبات الدراسة. وقد ارتأيت أن أقتصر على ما يشاهده الزائر من تغير أثناء تجواله في شوارع ومعالم العاصمة والتي تدخل ضمن ما يمكن وصفه بالتغيرات العمرانية والمدنية، والتي هي بدورها نتاج لتغيرات في أنماط وسلوكيات الناس. دون الخوض في تفصيل التغيرات التي طرأت على هاتين الأخيرتين وذلك لعظم التغير فيهما، ولكونهما يستحقان تدوينا مستقلا مع مزيد من التدقيق والملاحظة.

لعل أول ما يلاحظه زائر مثلي عند قدومه من المطار الازدياد الهائل في أعداد المجمعات والأسواق التجارية الحديثة، فقد اكتظ الطريق الدائري الشرقي على سبيل المثال مع مخارجه المتعددة ومن شماله إلى جنوبه بأسواق ومجمعات عدة، بعدما كانت الأراضي الخالية هي السمة السائدة في أغلب جنباته. وبذلك لم تعد الأسواق حكراً على الأحياء الممتدة على طريق الملك فهد، بل إنني عندما أقود سيارتي في بعض أجزاء الطريق الدائري الشرقي أحس أنني في طريق الملك فهد وذلك من شدة ازدحام الطريق الناتج عن هذا النمو، هذا مع أن الطريق صار يحوي خمسة مسارات، وبه مخرجان مصممان حديثا بتصميم ذكي يسهل حركة المرور ويستغني عن الإشارات المرورية. كما أن الطريق الدائري الشمالي بدأ يلحق بأخيه الشرقي، فقد أصبح الطريق يحوي خمسة مسارات وبدأت تظهر المجمعات على جانبيه، بل وأصبحت حركة السير فيه شبيهة بحركة السير على الطريق الدائري الشرقي سابقاً بعدما كان قبل سنوات قلائل فقط طريقا شبه خاوي. لا شك أن لاتساع مساحة الرياض المستمر وازدياد عدد السكان والذين يقارب الأربعة ملايين ونصف نسمة دور في ازدياد عدد الأسواق، فقد وفر هذا النمو فرصا تجارية واستثمارية ببناء مجمعات وأسواق عدة والابتعاد عن مراكز التسوق الأخرى في المدينة، وفي هذا التوسع خدمة لسكان الأحياء التجارية الأخرى عن طريق تخفيف تزاحم السيارات على أحيائهم.

بيد أن ما سبب استيائي البالغ استخدام ملاك المجمعات والأسواق التجارية الحديثة لكلمات أجنبية مثل سنتر، مول، جاليريا، بلازا، سيتي، لاند، هايبر ماركت. ويلاحظ في هذه الكلمات أنها أوصاف وليست مسميات، إذ قد يتعذر بعض ملاك هذه المجمعات بعدم وجود مسميات عربية مناسبة لم يسبقهم غيرهم إليها، ولكن المشاهد أن غالب أسماء الأسواق هي هجين بين لغتين، فتجد اسما عربياً ووصفاً أجنبياً. حقيقة أبدي امتعاضي واستغرابي الشديدين لهذه الظاهرة والتي لم تكن موجودة من قبل فضلاً أن تكون منتشرة. والتي تدل على عدم اعتزاز باللغة العربية لدى المستثمرين والمستهلكين على حد سواء، ورغبة في محاكاة الغرب وتقليده بطريقة سطحية دون الاعتبار بمكونات مجتمعنا الثقافية والتاريخية. كان بودي من أمانة مدينة الرياض، وهي الجهة المسؤولة عن إصدار تصاريح هذه المحلات التجارية، أنها لم تسمح باستخدام هذه الأوصاف الأجنبية، بل وليتها تبحث عن وتتبنى أوصافاً عربية موحدة بديلة للمفرادات الأجنبية كمول، جاليريا، بلازا، هايبر ماركت، واللفظة قديمة الاستخدام سوبر ماركت. وبعدها إن رغب ملاك المجمعات باستخدام وصف أجنبي فلا بأس أن يكتب باللغة الإنجليزية بحيث يكون ترجمة للوصف العربي ومكتوباً بجانبه كما هو مشاهد لدى بعض المجمعات.

لعل استخدام المسميات والأوصاف الأجنبية هو التغير الأبرز الذي ساءني خلال زيارتي، ولكن في المقابل هناك تغيرات عدة أعجبتني أو لفتت انتباهي، فمما لاحظته فتح فروع لجمعيات البر التابعة لمدينة الرياض وتواجدها في مواقع واضحة على الطرق الرئيسية بدلاً من داخل بعض الأحياء السكنية فقط، وهذا بدوره يسهل على المواطنين والمقيمين التنبه لها وتقديم التبرعات لها حتى تصرف على الفقراء والمحتاجين داخل الرياض. ومما أعجبني أيضا قيام بعض مكاتب الدعوة وتوعية الجاليات بوضع طاولة عند مداخل بعض الأسواق التجارية تحتوي على كتب دعوية وتعليمية لغير المسلمين أو لمن أسلم حديثا من الجاليات المتعددة التي تقطن الرياض، وأعتقد أن في ذلك وسيلة قوية في الدعوة إلى ديننا العظيم بطريقة ناضجة تسهم بالوصول إلى أعداد كبيرة من المتسوقين الذي يرتادون هذا السوق بشكل دوري. ومما سرني كثيرا إنشاء مراكز الأحياء الاجتماعية، بغرض تنظيم بعض الأنشطة الاجتماعية على مستوى الحي، المشروع حسب ما فهمت في بداياته الأولى لذا أسأل الله للقائمين عليه النجاح والتوفيق. هذا التوسع في مثل هذه المرافق إشارة إلى اهتمام أكبر من القائمين على هذه المناشط بالوصول للناس والذهاب إلى مراكز تجمعاتهم وتواجدهم، وعدم الاكتفاء بالبقاء في نفس الموضع وانتظار أن يأتي الغير إليك. ولا يسعني هنا إلا أن أحيي هذا السلوك الجميل والذي يحرص على نشر الخير للناس بالنزول إلى أماكنهم.

ومما أعجبني كذلك العدد الكبير من الإعلانات والملصقات المعلقة عند أبواب المساجد للدورات العلمية الشرعية المقامة في مختلف الجوامع في العاصمة من دروس في المتون إلى محاضرات في المعاملات المالية إلى دورات مكثفة لحفظة القرآن تشترط اجتياز مقابلة شخصية للتأكد من جدية الحاضرين. فكم هو جميل أن يقام خلال الإجازة الصيفية هذا العدد الكبير من الدورات الشرعية إضافة لأنشطة الأندية الصيفية الهادفة في أرجاء المدينة مما ييسر للمرء الاستفادة من وقته وحفظه بدلا من تضييعه مما لا طائل فيه. وقد صاحب هذا الازدياد في عدد ونوعية الدورات قيام عدد من الجوامع الضخمة الحديثة البناء، والتي ربما يصح أن نطلق عليها مراكز إسلامية كما هي التسمية الأكثر استخداما في الولايات المتحدة وذلك لعدم اقتصار هذه الجوامع على أداء الصلوات الخمس والجمعة فقط وتعديها لإقامة حلقات لتحفيظ القرآن مع الاستعانة بالتقنية الحديثة بغرض متابعة وتسجيل ما يحفظه الطالب وجعله متوفرا لولي أمره عن طريق الإنترنت، وهو ما يعرف بنظام الحلقة الإلكترونية، إضافة لإقامة عدد من الدورات والمحاضرات والأعمال الخيرية، ولعل أبرز هذه الجوامع من حيث الموقع والمساحة والخدمات التي يقدمها هو جامع الراجحي الجديد الواقع على الطريق الدائري الشرقي، حيث أني أستذكر عند دخوله دخول أحد الحرمين الشريفين وذلك لكثرة الناس فيه وكثرة ملحقاته. وربما يكون لتوفيره ماء زمزم بنفس الطريقة التي يوفرها الحرمان الشريفان دور في هذه المقارنة، والتي بالطبع تقف عند حدود المقارنة المعمارية دون الاقتراب من فضيلة المكان أو أجر الصلاة فيه.

ومن الأمور الرائعة التي قامت بها أمانة مدينة الرياض تهيئة عدة أرصفة عريضة لممارسة رياضة المشي معدة بجلسات للراحة في عدد من أحياء الرياض أسوة بالرصيف الذي اشتهر بمضمار أو شارع الحوامل على طريق الملك عبدالله، وفي هذا تشجيع للأفراد والعائلات لممارسة رياضة المشي بدلا من إضاعة الأوقات الطويلة في المقاهي أو عبر مكالمات الجوال، إذ قد حدثت طفرة هائلة في أعداد محلات هذين الأخيرين وبشكل ملفت لا يمكن للمرء ألا يلاحظه. فالمقاهي تراها أينما ذهبت حتى ضمن ملحقات محطات الوقود في بعض الأحيان، وهي مهيئة بأثاث فاخر وتقدم شتى الأصناف من المشروبات الساخنة والباردة والحلويات، بل وفي الكثير منها شبكة اتصال محلية لاسلكية لتصفح الإنترنت مما يغري بالمكوث فيها لفترات أطول وأطول. كما أن محلات أجهزة الهاتف الجوال بلغت عددا مهولا، حتى أنك قد تجد في شارع تجاري عادي أكثر من عشرة محلات متلاصقة، وكأن الناس لا شغل لهم إلا شرائها وبيعها واستبدالها، مما يجعلني أتساءل كم مقدار ربح شركة نوكيا على سبيل المثال من السوق السعودي، ولماذا لا تقوم بفتح مصنع لها هنا، فالناس يتسابقون على شراء الجديد من هذه الأجهزة بشكل غير معقول.

ومن ضمن التغيرات ما طرأ على وسائل الدعاية والإعلان، فقد باتت النشرات الإعلانية تصل إلى البيوت بشكل أكبر ويتم وضعها من تحت أبواب المنازل، بعضها من إصدار محلات تجارية بذاتها، والأخرى وهو ما لم أعهده من قبل، مجموعة إعلانات مبوبة على شكل نشرة من إصدار جهة خاصة توزع بشكل دوري تذكرني بالكوبونات التي ترسل ضمن مجلة خاصة على صناديق البريد في الولايات المتحدة، وأعتقد أنه في المستقبل القريب ستصل مثل هذه النشرات الدعائية إلى صناديق البريد المثبتة حديثا على أسوار بيوت الرياض، والتي لم يكن منظرها معروفا قبل أشهر قليلة. كما أن المتجول في شوارع العاصمة يكاد يشاهد بشكل يومي ملصقات لنصرة النبي صلى الله عليه وسلم علقت أثناء حملة مقاطعة المنتجات الدانماركية مثل إلا نبينا، إلا حبيبنا، إلا محمد، فداك يا رسول الله. يشاهدها المرء على الزجاج الخلفي للسيارات وعند مداخل المحلات التجارية بل وداخل مباني كبريات الشركات. إضافة إلى بقايا ملصقات هذه الحملة فإن هناك لوحات لحملتين أخريين، الحملة الأولى حملة توعوية تحت شعار “يكفي” بهدف تقليل المخالفات والحوادث المرورية وتحسين مستوى القيادة في الرياض والذي والحق يقال أنه بلغ حدا كبيرا من الاستهتار في مخالفة الأنظمة مما نتج عن عدد مروع من الوفيات. أما الحملة الأخرى فهي بهدف تشجيع ومساعدة المدخنين والمدخنات على الإقلاع عن هذه العادة الذميمة، حيث تم تخصيص أرقام هواتف للرجال والنساء الراغبين بالإقلاع عن التدخين بغرض مساعدتهم وإعانتهم. ومن المعلوم ما لمثل هذه الحملات ذات الأهداف النبيلة من أثر في الوصول إلى عدد أكبر من الناس بغرض إقناعهم بأسلوب مباشر ومؤثر.

هذا ما تيسر لي مشاهدته من متغيرات تمت في عامين فقط. ترى كم سيكون مقدار التغير بعد عامين آخرين من الآن؟